الصفحة الرئيسيةرأي

أطفال المغرب: ولادات مجانية بدون زاد!

بقلم : سعيد بوخليط

هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد//    أبو العلاء المعري 

سنوات الصغار، كنت ورفاق الحي، ندمن الذهاب إلى قاعات السينما، التي اعتادت غالبا على عرض فيلمين، ترافقا على الدوام  : كونغ فو شاولين وآخر هندي. زواج كنسي، اصطلحنا عليه تهكما بالتاريخ والجغرافيا، نظرا لتلازمهما الطبيعي، أو “قهوة وحليب”.

وبقدر ما تشحننا قصص القرى الصينية القديمة نشاطا وحركية ودينامية، فنتبارى داخل السينما، بعروض مصاحبة للمشاهدة  المعروضة على الشاشة، بذات الأفعال وردود الأفعال، التي يؤديها بطل الكاراتيه.

 مقابل ذلك، تأخذنا السكينة رويدا رويدا، مع تلاحق متواليات الفيلم الثاني، ملتصقين كالأموات على المقاعد أو جامدين أرضا،هائمين مع رخامة رنين الميلوديا الحزينة للأغاني الهندية، لاسيما إذا كانت الحكاية موغلة في التراجيديا، وقد كانت كذلك غالبا. يتحول الاحتفاء السينمائي إلى ما يشبه مأثم عزاء، تفيض مآقي عيوننا، ويزداد صبيبها مدرارا، إذا ترصدت كاميرا المخرج، بالتزامن مع ايقاعات الأغنية الحزينة، بؤس هؤلاء الهنود الصغار، الذين لم يعرفوا من حياة ثانية، سوى التسول على أرصفة شوارع نيودلهي وبومباي، إما بكيفية مباشرة، أو متوارية، بإسراعهم إلى ملاحقة المارة إلحافا، ملحين عليهم بعرض خدمات حقيرة : بيع مناديل، مسح الأحذية،تنظيف الزجاج الأمامي للسيارة،حمل أشياء ثقيلة… .على أية حال،تمثل الهند حاليا قوة نووية وعسكرية وعلمية،جبارة، يحسب لها ألف حساب، ضمن خريطة التوازنات الجيو-استراتجية، التي تحددها الحلقة النخبوية لصناع العلاقات الدولية.      

وقتها،كانت شوارع المدينة المغربية،بعيدة عن هذا الأمر،وبقينا خلال نقاشاتنا نؤمثل عالميا بالدرجة الأولى لتشرد الأطفال، وما يرافق ذلك من موبقات،بالهند لأننا خبرناها تماما عن طريق السينما،ثم فيما بعد البرازيل والمكسيك بفضل تلك البرامج الوثائقية. 

بيد أنه سرعان،ما انتقلنا من فانتازيا السرد المتخيلة ،إلى صدمة الواقع الماثلة، وكأن أفواج هؤلاء الأطفال الكومبارس، مزقوا ستائر تلك الشاشات، وقد أغلقت جل قاعاتنا السينمائية أبوابها، وصارت أطلالا يسخر منها الزمان المعاصر، ثم تدفقوا صوب شوارعنا، دفعة واحدة، بحيث نتابع ذات المشاهد، على امتداد تفاصيل شوارع مدننا لاسيما الكوسموبوليتية منها.حشود أطفال،في مقتبل العمر،يأكلهم التسول،يتنفسون التشرد،يموتون الموت خلال كل حياة،يأملون فقط في الضياع،لا أحد يهتم لأحوالهم ومصائرهم،غير القصص المرعبة، الهمجية، التي أدمنوها ليلا ونهارا،كما أدمنوا مختلف سبل الغياب،بين الأزقة المتغولة. 

يستحيل أن يمر يوم،دون معاينة أو سماع وقائع، توشك أن تكون سينمائية،عن أطفال صغار متروكين وحدهم للقسوة والمآلات المريرة،تخلينا عنهم جميعا إلى غير رجعة.أطفال، لا ذنب لهم،سوى أن الكبار مذنبون،لا يتوقفون عن جلد ذواتهم. أطفال، أخطأتهم نزوة ولذة حسية،استغرقت دقائق معدودة،لكنهم سيكابدون لدهر طويل،عذابات مريرة،وسط مجتمع تتقعر أنانياته المريضة، بدون مرافئ ولاشواطئ للأمان. 

حقا،وعلى منوال مختلف القضايا الوجودية الكبرى المنطبقة على مفهوم الجماعة البشرية،يصعب الفصل وإن صوريا على الأقل،بين الموضوعي والذاتي،المجتمعي والشخصي،الواقعي والفردي،الاختيارات الخاصة والمسارات العامة.إذن، مع انتفاء مقومات مشروع مجتمعي وطني، فعلي ورصين،تتوالى بناءاته خلال كل آن،وتترسخ حمولته حقيقة وليس لغويا دعائيا،لمجرد أهداف سياسيوية ضيقة المصالح.مشروع ينهض بالإنسان، فيطوره عقلا وجسدا وروحا وعاطفة وخيالا.بالتالي،غياب أرضية  مُؤسِّسة كهذه،سيؤثر بكيفية سلبية كذلك، على الانبعاث والتشكل والإرساء السليم،لعمل باقي المؤسسات الأخرى،التي تنمي بزخم وعي الفرد. 

بمفاهيم ثانية،ستمثل هنا مؤسسة الزواج والأسرة،القيمة الأساس،حين مقاربة موضع الأطفال،ثم مدى عقلانية أوسيزيفية القصد والنتيجة. وددت القول، هي مؤسسة تنجح أو تفشل، تحيي أو تميت، تعانق المستقبل بشوق أو تصاب بالجنون والتحلل،خلاّقة أو غبية،ذات معنى أو مجنونة….مختلف هذه التقابلات، الحدية وغيرها،حسب مدى فاعلية البناء المجتمعي، بخصوص المسار الفعال لباقي المؤسسات الأخرى السياسية والاقتصادية والثقافية.بناء عليه،هل يمكن فصل سياق الزواج وفلسفة التناسل في المغرب،عن بنية الأعطاب الهيكلية،التي تنخر باقي المؤسسات المفترض فيها الإنتاج الكيفي؟هل الأمور محكومة بمخطط عقلاني مستوعبا بحكمة نوعية إفرازات القائم،ثم مستشرفا الممكن؟بكل تأكيد،الجواب بالنفي.  

أطفال يزدادون يوميا هكذا عشوائيا، بدون زاد،نسب الطلاق ترتفع تصاعديا،خريطة الهندسة الجينية للمتخلى عنهم في اطراد،وأغلب المتزوجين تكشف أحاديثهم عن علل تبرر كل شيء إلا الاقتناع المحض :الدين،الجنس،التقليد الرجولة، الفحولة،شرعية الأولاد،كلام الناس،المعيل حين الكبر،البركة والرزق،الخ،أيضا المقبلون الجدد على الأمر، يتوخون بدورهم تكرار التجربة بنفس المقدمات، تقليدا لاغير.ويغيب دائما،السؤال الأنطولوجي،الذي لامحيد عنه، الوحيد الذي يعقلن حياة الدول والأفراد :هل يوجد مشروع،بالمفهوم الإنساني للتحقق يشرعن ويوجه الخطى لما أحب ؟ لما أرتبط بامرأة ؟لما أقرر التناسل من عدمه؟ لما أخرج كائنا جديدا من جبّتي؟ أم أن المسألة رهينة فقط لعبثية الصدفة،ومتواليات الأهواء والأمزجة،  كما الشأن بخصوص كل ما يهم شؤوننا؟

أختم هذه الإشارة المقتضبة، بمقطع لعبد اللطيف اللعبي :  

((إذا تنازلنا عن أحلامنا، فإنها ستتركنا.

ـ تكلم بوضوح أكثر.

ـ ماذا تريدون أن أقول لكم ؟يعيش قتلة الأحلام بين ظهرانينا. يستغلون غباءنا وارتباكنا، لكي ينجزوا عملهم بهدوء.

ـ ما العمل،إذن ؟

ـ ليس من جواب واحد بخصوص هذا السؤال.

ـ ماهو أقصى حلمكم ؟

ـ وطن يحث أطفاله على الحلم)).

 

arArabic