الصفحة الرئيسيةرأي

جولة في عقل الرئيس بوتين .. سذاجة الرؤية الأميركية لشخصيته

تدل الضربة التي حدثت في وقت باكر من صباح اليوم الخميس ومتابعة السجال الأميركي الصاخب حول شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على جهل واسع بالمحددات العملية والموضوعية التي تشكل ذهن وحسابات قادة العالم، في وقت يتم فيه التركيز على اجتهادات الأطباء النفسيين وتقديرات رجال الاستخبارات السابقين.

تدل التقديرات السابقة على سذاجة الرؤية الأميركية لشخصية بوتين، إذ يتم وضعه مرة بعد أخرى في قوالب سابقة التجهيز، مع تجاهل متكرر للعوامل الموضوعية والأحداث والتطورات التاريخية، وأثرها على سلوكه وقراراته

ولا تكتفي الكثير من البرامج التلفزيونية والتقارير الإخبارية بشيطنة الرئيس الروسي، بل يتمادى بعضها ليصف بوتين بأنه يعاني من عزلة ووحدة غير مسبوقة بسبب فيروس كوفيد-19. وصف مسؤولون كبار سابقون بوتين بأنه شخصية خجولة لديها شكوك في كل المحيطين به حتى من كبار مساعديه ممن عملوا معه لسنوات طويلة، في حين ذهب آخرون للادعاء بأن نشأة بوتين منذ مولده عام 1952 جعلته يؤمن بقوة بالاتحاد السوفياتي كفكرة وقيمة ومكانة فقدتها روسيا بعد انهياره عام 1990.

وقبل شهور وفي حوار تلفزيوني، اختزل الرئيس الأميركي جو بايدن شخصية بوتين في كلمة واحدة ونعته “بالقاتل”، في حين وصفه الرئيس الفنلندي السابق مؤخرا بأنه أصبح شخصية متوترة غاضبة تغيب عنها الحكمة. أما الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون فقد ذكر عقب لقائه به الأسبوع الماضي أن بوتين تغيّر كثيرا وأصبح أكثر توترا.

وتدل التقديرات السابقة على سذاجة الرؤية الأميركية لشخصية بوتين، إذ يتم وضعه مرة بعد أخرى في قوالب سابقة التجهيز، مع تجاهل متكرر للعوامل الموضوعية والأحداث والتطورات التاريخية، وأثرها على سلوكه وقراراته.

ويرفض البروفيسور الشهير جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة شيكاغو، التقديرات السطحية السابقة، ويفضل أن يفهم سلوك الرئيس بايدن في ضوء ما يحيط به من أحداث وتطورات تاريخية.

ومن الصعب العثور على عالم أو باحث في مجال العلاقات بين الدول بقوة وعمق وتأثير ميرشايمر، الذي تُدرس أعماله وكتاباته لكل طلاب العلاقات الدولية حول العالم منذ الربع الأخير من القرن الـ20 وصولا لقرب نهاية الربع الأول للقرن الـ21.

ويرفض ميرشايمر التقديرات السطحية حول بوتين، ويرى أنه إذا رغبنا في فهم شخصية وتصرفات وقرارات الرئيس الروسي، فعلينا فهم كيف ينظر بوتين للعالم كما هو من حوله.

ويرى بوتين، وهو الابن البار لجهاز الاستخبارات السوفياتي السابق “كيه جي بي” (KGB)، أن العالم الغربي له زعيم واحد هو الولايات المتحدة الأميركية، ويؤمن بأن واشنطن، سواء تحت حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين، تنظر لروسيا بوصفا خطرا وعدوا لا يمكن تجاهله.

وطبقا لرؤية ميرشايمر، تحكم حسابات بوتين نظرة ثلاثية الأبعاد متكاملة ومترابطة، يبدأ أولها بفكرة توسع حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) وامتداده شرقا في اتجاه حدود بلاده، وثانيها توسع وتمدد الاتحاد الأوروبي، وآخرها التبشير بحتمية تحقيق الديمقراطية الليبرالية على النسق الغربي في كل دول القارة الأوروبية.

من هنا يؤمن بوتين يقينا بأن هدف إسقاط نظام الحكم المركزي القوي في موسكو يبقى المحرك الأساسي لكل السياسات الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

وبخصوص توسع حلف الناتو وتمدده شرقا، يؤمن بوتين بأن الغرب خالف تعهداته بعدم التمدد شرقا ولا لبوصة واحدة كما جاء على لسان وزير الخارجية السابق جيمس بيكر في بداية تسعينيات القرن الماضي. ويؤمن بوتين بأن واشنطن استغلت ضعف بلاده وحالة الفوضى التي ضربتها في بداية القرن الـ21، ووسعت حلف الناتو لدرجة ضم جمهوريات سوفياتية سابقة ودول من أوروبا الشرقية يجمعها بروسيا حدود طويلة مثل بولندا.

ويرى بوتين أن الغرب تجاهل منذ عام 2008، بعد تبنيه سياسة الباب المفتوح لتوسيع حلف الناتو بما يشمل أوكرانيا وجورجيا، كل المخاوف الروسية من وصول الحلف لحدودها القريبة سواء شرقا في أوكرانيا أو جنوبا في جورجيا.

ومنذ أيام تحدث الأمين العالم لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ عن “الواقع الجديد في أوروبا” (New Normal)، في إشارة لتجاهل المخاوف الروسية من تمدد الحلف في اتجاه الشرق واستعداد الحلف لضم أوكرانيا في المستقبل.

من ناحية ثانية، يؤمن بوتين بأن تمدد الاتحاد الأوروبي بما يشمل مظلة اقتصادية مالية جمركية واحدة تستثنى منها روسيا بمثابة خطوة عدائية أخرى من الغرب.

ومن ناحية ثالثة، يرى بوتين أن الدعوات الأميركية لدعم وتمويل عمليات الانتقال الديمقراطي في دول أوروبا الشرقة والجمهوريات السوفياتية السابقة تمثل تهديدا كبيرا للدولة الروسية القوية والمركزية، وبأن هدفها في النهاية إسقاط نظام الحكم في موسكو، واستبداله بنظام صديق لواشنطن والغرب.

واعتبر بوتين أن مؤتمر الديمقراطية الذي استضافته إدارة بايدن في ديسمبر/كانون الأول الماضي كان بمثابة إعادة تقسيم أميركي للعالم وعودة لمناخ الحرب الباردة وخطوة عدائية تضع واشنطن موسكو وبكين في جانب آخر.

وينتقد بوتين مرارا ادعاء واشنطن والغرب احترامهما القانون الدولي، ويُذكّر بأن غزو أميركا للعراق والضربات الجوية لقوات حلف الناتو على ليبيا وصربيا، لم يصاحبهما أي التزام أو اكتراث من قبل دول الغرب بمسألة القانون الدولي واحترام سيادة وحدود الدول حين يتعلق الأمر بمصالحها.

يتجاهل خبراء الشأن الروسي ممن تكتظ بهم شبكات الأخبار الأميركية استغلال بوتين حالة الضعف الغربي، وغياب وجود قيادات تاريخية تقدر حجم التحديات المعاصرة وتعقيداتها. استغل بوتين وجود رئيس أميركي مُسن تتدهور شعبيته لتقل عن 40% وسط انقسام واستقطاب سياسي لم تشهد له الولايات المتحدة مثيلا في تاريخها القصير. ويستغل بوتين رغبة 74% من الأميركيين في عدم لعب أي دور بارز في الأزمة الأوكرانية الجارية، وسط تدهور اقتصادي وارتفاع غير مسبوق في نسب التضخم.

واستغل بوتين وجود رئيس وزراء بريطاني تطاره الفضائح الداخلية والتحقيقات البرلمانية، كما استغل وجود مستشار ألماني جديد في الحكم جاء على رأس ائتلاف ضمنه أحزاب اشتراكية ويسارية لا تعادي روسيا وتمقت الحروب. واستغل بوتين أيضا وجود رئيس فرنسي لا يسيطر على هاجسه إلا إعادة انتخابه خلال أسابيع قادمة.

تجاهل الغرب وأميركا مخاوف بوتين منذ 2014، على الرغم من سقوط ما يقرب من 14 ألف قتيل أوكراني في معارك بين مناطق أوكرانيا الشرقية وحكومة كييف. لم يرض الغرب بمنح أوكرانيا صفة الحياد لتصبح منطقة عازلة محايدة بين حلف الناتو وروسيا، فما كان من بوتين إلا أن استخدم كل أدواته المتاحة لتغيير واقع لا يرضيه على الأرض باستخدام القوة، وهي اللغة للأسف التي يسهل على الجميع 

محمد المنشاوي : موقع الجزيرة

arArabic