الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاثملفات خاصة

تعليم البنات في المغرب قبل الأربعينيات

للمراكشية : ذ. محمد الطوگي

سنقف عندها بشيء من الإسهاب نظرا لخصوصيتها وأهميتها .

1- قبل الحماية :

1- كان تعليم الفتيات قبل الحماية مقصورا على مرفقين تعليميين تقليدين؛ “دار الطالبة”(14) أو”دار الفقيهة” وهي عبارة عن كتاب “مسيد” مقصور على الفتيات ؛ حيث تخصص الفقيهة من بيتها غرفتين أو ثلاث، وتعنى بتحفيظ رائدات كتابها لكتاب الله تعالى، والمرفق التعليمي الثاني هو “دار المعلمة” (15) ؛ حيث تتعلم البنات بعض الأعمال اليدوية ؛ كالخياطة، والطرز، طرز الغرزة … إلخ . يقول الحجوي الثعالبي عن هذين النوعين من التعليم : ” لقد أدركنا فاسا، قبل عهد الحماية، وفي جل حوماتها دور لتعليم البنات القرآن الكريم والكتابة والقراءة، وفيها معلمات صالحات، زيادة عن دور تعلم الصنائع اليدوية الرقيقة المتنوعة تعليما ممزوجا بأدب المنزل، وكان في كل درب منها عدد ليس بقليل، بحيث نقول، عن تحقيق، إن جل بنات فاس كن يتعلمن الصنائع ويتهذبن، وكثير منهن يتعلمن القراءة والكتابة، ولا يبقى دون تعلم إلا نزر زهيد جدا، وهكذا كانت الحواضر عندنا كسلا والرباط ومراكش وتطوان والصويرة وغيرها من بلدان المغرب”(16).

أما عن القصور السلطانية، فيقول، مؤرخ الدولة العلوية الشريفة الأديب ونقيب الشرفاء العلويين العلامة عبد الرحمان بن زيدان (ت 1878-1946) في مؤلفه المخطوط – الجواهر النفسية الغالية في نظام الدولة العلوية العالية – : ” لقد كان لدولتنا العلوية العلية اهتمام زائد بتعليم البنات ؛ شريفات ومشروفات ؛ لأن النساء شقائق الرجال في الأحكام، ولم تخل القصور الأمامية، في حين من الأحيان، من أستاذ من جلة خيار الأساتذة وأنزههم وأسنهم ممن لا إرب له في النساء، ولا شغل له إلا تعليم البنات القراءة والكتابة والضروري من علوم الدين الذي لا يسع المكلف جهله شرعا، ولا تخلو القصور من الكتاتيب المعدة لذلك، ولا تكون إلا داخل باب القصر، تحت رعاية وإشراف الطواشين، ولابد لكل شريفة تتعلم من مرافقة، داية، تراقبها داخل المكتب، ولا يشاركهن في القراءة معهن بمكتبهن ذكر، ولو كان أصغر منهن ، أو شقيقا لهن.

يأتي المؤدب وقت شروق الشمس، ولا يبارح مكتب التعليم إلا بعد أداء فريضة العصر مع المتعلمات. ومعهن يكون فطوره وغذاؤه ؛ يتناول كفايته أولا، ويرد الباقي عليهن، أما عشاؤه فيذهب به لداره. ولا تعطل القراءة إلا في يوم الخميس، وبعد زوال يوم الأربعاء، وصبيحة يوم الجمعة … فإذا بلغت البنت السنة السابعة من عمرها احتجبت ولم يبق لها سبيل للخروج للمكتب ولا رؤية المؤدب. وتقبل على التعليم البيتي والتقاليد العائلية ؛ كالطبخ والخياطة والطرز وتربية الأطفال، وغير ذلك مما يلزم المرأة تحضيره في بيتها.

ولم تكن توجد بنت شريفة أو مشروفة ولدت بالقصور السلطانية، أو دخلت إليها قبل السابعة من عمرها إلا وتحسن الكتابة والقراءة إلا نادرا ، وربما وجد في نساء القصر من كان يقرأ برواية البصري ؛ كالدرة المكنونة السيدة حفصة بنت السلطان المنعم سيدنا الجد ابن هاشم … أما من يحفظ رواية ورش فكثير . وقد كان في القصور السلطانية من يقمن بتعليم غيرهن القراءة والكتابة ممن لهن رغبة في ذلك وفاتهن زمن التعلم عند الأستاذ الراتب، ولم يزل العمل جاريا على تعليم البنات وتخصيصهن بمكتب يقرأن فيه، ومعلم يعلمهن إلى ما بعد عام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف مـــوافق (1909م)”(17).

وذكر مجموعة من مؤدبي بنات القصر، في كل من مكناس وفاس ومراكش. فمن جملة مؤدبي الحمراء ؛ الأستاذ البركة أبو عبد الله محمد بن موسى ، وقد كان في ابتداء أمره يقرئ أبناء السلطان أبي زيد بن هشام الذين، من جملتهم العلامة أبو الحسن علي صاحب البستان الشهير بحومة الكتبيين من عاصمة الجنوب مراكش الحمراء. فهذا هو المسار التعليمي والتربوي المهيمن في المدن الحضرية والقصور، طبعا قبل الحماية، كان محدودا في مواده وفي سن تعاطيه خاصة عندما يكون المؤدب رجلا.

2- أثناء الحماية وقبل الأربعينات :

سيظل هذا التقليد التربوي بالنسبة للفتيات هو المعمول به في فترة الحماية لغاية ما قبل منتصف الأربعينات، يدلنا على ذلك رد الفعل العنيف الذي يصب على من هَمَّ بالخروج عن المألوف. فعلى سبيل المثال، فهذا مندوب المعارف، الأستاذ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (1874-1956) ألقى مسامرة بالمعهد العلمي العالي بالرباط في سنة 1925، في جمهور من المثقفين (18) المغاربة والفرنسيين، ورجالات المخزن يتقدهم الصدر الأعظم الحاج محمد المقري. كان عنوان تلك المسامرة ، “تعليم الفتاة ومشاركتها في الحياة”، وما أن قدم المحاضر مداخلته حتى تصدى له الصدر الأعظم وأوقف المحاضرة قائلا : “إن الدين الإسلامي لا يساعد على تعليم البنت تعليما يجعلها تشارك الرجل وتزاحمه في الحياة، ملقيا في نفس الوقت سؤالا على الشيخ أبي شعيب الدكالي قائلا : فما قولك في هذا أيها الشيخ الأستاذ في هذا الموضوع، أيجوز هذا أم لا يجوز ؟ فأجابه الشيخ بالمنع، وأن تعليم الفتاة تعليما يبلغ بها إلى هذا الحد لا تقره مبادئ الإسلام، وللحين اسقط في يد المحاضر دون أن يتم المحاضرة ” (19).

فما الذي أزعج أولئك المحافظين الذين وقفوا في وجه المحاضر ولم يتركوا له فرصة لإلقاء مسامرته ؟ ونظرا لنفاسة أجوبته في الدفاع عن تعليم البنت فهذه خلاصتها، استفدناها من مسامرته التي نشرها فيما بعد.

إن موقف الحجوي من مسألة تعليم البنات مشهور، وقد سبق له أن جهر به في محاضرة له بمؤتمر انعقد بالرباط في سنة 1341 هـ – 1922، فهو يرى ضرورة تعليم الفتاة تعليما عربيا إسلاميا على نحو تعليم السلف الصالح. وقد استدل على ذلك بأدلة نقلية وعقلية كلها مفضية إلى تحقيق مصلحة تعليم البنات تربويا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وكما يقال حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله. فمن تلك الأدلة التي قدمها :

– أنه لم يقف في الكتاب والسنة على دليل صريح بمنع المرأة من العلم أي علم كان، أو يوقفها عند حد محدود في التعليم العربي الديني، بل الأصوليون صرحوا بأن المرأة يجوز لها أن تصل إلى رتبة الاجتهاد في علوم القرآن والسنة وما يوصل إليها من العلوم الإسلامية ؛ حتى تكون كمالك والشافعي وأضرابهما .

– قال عليه السلام : طلب العلم فريضة على كل مسلم رواه ابن ماجة والبيهقي وابن عدي وغيرهما . قال العراقي : صحح بعض الأئمة طرقة، وقد ألحق به بعض المصنفين بآخر الحديث ومسلمة، وليس لها ذكر في شيء من طرقه. قال العلامة الحجوي : وهذه الزيادة غير محتاج إليها ؛ فكل حكم ورد في الشريعة لمسلم أو مؤمن إلا والمسلمات والمومنات داخلات فيه إما بطريقة اللفظ أو القياس ؛ لأن النساء شقائق الرجال في الأحكام، إلا ما ورد فيه استثناء كأحكام الحيض والنفاس 

– نص على أن لاجماع منعقد على أنه لا يجوز لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، وأن الله لا يعبد إلا بالعلم، والمرأة داخلة في ذلك بلا شك، وهذا من ضرورات الفقه والدين .

– من تلك الأدلة أن النبي صلى عليه وسلم كان يجعل للنساء يوما مخصوما لتعليمهن .

– قدم أمثلة لنساء عالمات من الصحابيات والتابعيات وهكذا عبر العصور ولم ينس الاستشهاد بنماذج من عالمات اشتهرن في الغرب الإسلامي .

وتتطرق إلى المنافع التي يجنيها المجتمع من وراء تعليم البنات، معرفيا واجتماعيا وصحيا وتربويا واقتصاديا، وقرر لها بالإضافة إلى علوم الشرع واللغة مواد علمية كفيلة بأن تحافظ لها على كرامتها “فتعلم الحساب، وعلى الأقل قواعده الأربع بحيث إذا مات زوجها وأصبحت وصية على أولادها وتصرفت لنفسها تعرف ضبط ما هي مضطرة إليه حسابا وكتابا : لألا يذهب مالها ومال المحاجير ضحية الجهل والغلط أو النسيان.

كما تتعلم صنعة أو أكثر؛ كالخياطة والطرز والفنون الجميلة والطهي وغير ذلك استعدادا للطوارئ، ولاسيما إذا كانت فقيرة، فالصنعة لها ضرورية ” (20).

على كل حال كان هذا مشروعه . ويظهر أن قوى الجمود والتأخر كانت في الفترة التي هم فيها بإلقاء مسامرته، كانت في عز قوتها، وقد أثرت على الرأي العام المغربي. يقول الحجوي الثعالبي : “كان المغاربة أزهد الناس في هذه المدارس التي فتحت للبنات، حتى أن إدارة المعارف لحرصها على التعليم فتحت واحدة في فاس سنة 1333هـ – 1914م، وبقيت فارغة لم يقصدها أحد، واضطرت لغلقها” (21).

يقول العلامة عبد الله الجراري معللا إخفاق مشروع الحجوي : “وإنما عاجل الفكرة الأستاذ الحجوي ناظرا إليه من بعيد، دون مبالاة بالوسط المغربي الذي كان ضدها على طول” (22).

لقد وعى المستعمر هذا الدرس ولهذا عندما فتح في سنة 1341 هـ – 1922 مدارس للفتيات في مجموعة من مدن المغرب، حاول في البدء أن يجمع فيها بين البيئتين التعليميتين لدار الطالبة والمعلمة. يقول الحجوي الثعالبي : “إن الهدف من إنشاء تلك المدارس ما هو إلا تكثير تلك الدور – دار الطالبة ودار المعلمة – وتنظيمها تنظيما يساير الرقي العصري في سائر الأقطار الإسلامية وغيرها ” (23).

جاء في تقرير رسمي، عرض أمام جلالة المغفور له محمد الخامس، رصد أنواع تعليم البنات في فترة ما قبل الأربعينات : “تنقسم المدارس الموجودة الآن والتي تعنى بتعليم الفتيات إلى ثلاثة أنواع :

المدارس الثقافية : حيث تعنى معلمات فرنسيات بتعليم اللغة الفرنسية، وتلقين مبادئ التدبير المنزلي، وأما الدروس العربية والدينية فهي موكولة إلى بعض (الفقيهات) اللاتي لا تتعدى معلوماتهن حفظ القرآن الكريم، حتى إن هذه الدروس كثيرا ما تعهد إلى معلمات فرنسيات لا يحسن التكلم بلغتنا فضلا عن تلقينها، غير أننا لا ننكر بعض النتائج الحسنة التي حصلت عليها هذه المدارس، إذ وفقت لتوجيه بعض خريجاتها إلى التدريب على فن التوليد.

والمدارس الصناعية: حيث تتعلم الفتاة مبادئ اللغة الفرنسية والتدبير المنزلي مع صناعة يدوية ترتزق منها، وأكبر ميزة لهذه المدارس هي الروح التجارية التي تسيطر عليها، إن أسرة التلميذة لا تنتظر إلا الفائدة المادية التي يعود عليها من عمل بنتها.

ونوع ثالث وسط : لا هو ثقافي ولا هو صناعي، بحيث يجمع بين محاسن النوعين السابقين ومساوئهما. هذه هي حالة تعليم الفتاة في المدارس الموجودة” (24) قبل الأربعينات.

arArabic