الصفحة الرئيسيةملفات خاصةمراكش الذاكرة

كانيتي/ العميان في مراكش.. انتقال الصدقة من كف إلى كف متجاورين صفا واحدا بالسوق

بقلم حكيم عنكر

تمثل الرحلة التي قام بها إلياس كانيتي عام 1953 إلى المغرب، ودونها في كتابه “أصوات مراكش”، لوحة انطباعية عن المدينة الحمراء من قبل صاحب نوبل للآداب (1981)، الذي عاش محمولا على البحث عن الأصول. فحياته تشبه تماما حياة جمل مترحل. لقد ولد كانيتي في بلغاريا، ثم رحل هاربا رفقة أسرته من المد النازي إلى إنكلترا، ومنها عاد إلى ألمانيا، وظل يكتب بالألمانية، رغم إتقانه عدة لغات.

وحين جاء إلى المغرب في تلك الفترة الزمنية من بداية الخمسينيات من القرن الماضي، كان يريد أن ينجز سفر استشفاء من أمراض الأصول، وربما لم يكن يدور بخلده أن يكتب مذكرات رحلته تلك، فبعد سنوات، من ذلك سيستقر قراره على نشر ما دوّنه في كتاب، هو في الأصل شذرات غير مترابطة، إلا من الفضاء الذي يجمعها، وهو فضاء الصحراء ومراكش وساحة جامع لفنا ومعمارها ودروبها الضيقة.

لقد لقنه مثلا المرور من “درب العميان”، معنى أن تدرك الحقائق بحواس أخرى، وأن تتساكن مع العالم الضاج من حولك، ذلك العالم الذي لا تعرف له من ألوان إلا قرارا أسود، أو ربما أحمر.

يكتب “ألفيت نفسي هذا العام، فجأة، لدى وصولي إلى مراكش، وسط العميان. ثمة مئات منهم، أكثر مما يستطيع المرء أن يعد، معظمهم يتكففون الناس. يقف جمع منهم، في بعض الأحيان ثمانية، في البعض الآخر عشرة، متجاورين صفا واحدا بالسوق، تترامى إلى البعيد هينمتهم الخشنة المكرورة، بلا انتهاء. وقفت بإزائهم، جامدا مثلهم، دون أن أتبين على وجه اليقين ما إذا كانوا قد استشعروا وجودي أم لا.

كان كل رجل يمسك وعاء خشبيا للصدقات، وحينما يلقي أحدهم بشيء لهم، فإن القطعة النقدية الممنوحة تنتقل من كف إلى أخرى، يتحسسها الرجال جميعا، يعجنون عودها، قبل أن يدسها أحدهم، تلك مهمتهم، في كيس النقود. إنهم يتحسسون معا، مثلما يهينمون ويدعون معا”.

لم يكن مشهد العميان هذا ليمر مرور الكرام، فقد تركت تلك الصورة الصوتية البصرية أثرها على كانيتي، لقد حاول في خلوته مع نفسه أن يعيد تركيب المشهد وتكراره، أراد أن ينخرط في التجربة/ تجربة العميان، لينظر هل بإمكانه أن يرى ما وراء الأسوار والأدعية والأصوات.

يكتب “بعد عودتي من مراكش، اقتعدت ذات مرة مغمض العينين، متربعا في ركن حجرتي، حاولت أن أردد “الله! الله! الله!” مرارا وتكرارا لمدة نصف ساعة، بالسرعة وبالارتفاع المناسبين. حاولت أن أتصور نفسي عاكفا على ترديدها نهارا بكامله وجانبا من الليل، أغفو قليلا، أعاود الترتيل كرة أخرى، عاكفا على الشيء نفسه أياما، أسابيع، شهورا، أعواما، دابا نحو الكهولة فالشيخوخة، على هذا النحو، ومتشبثا، دون أن أستشعر حاجة إلى شيء آخر، عاكفا عليها تماما”.

إنها تجربة حاول خوضها كانيتي، لمدة نصف ساعة فقط، وتخيل بقية حياته في المكان نفسه يدور الليل والنهار حوله، والفصول، وهو يلهج بذات النداء. رجل أعمى تماما، مركونا في الركن ذاته يقول “فهمت السحر الكامن في حياة تجرد كل شيء إلى أبسط ضروب التكرار.

ترى أي اختلاف عن هذا في حياة الحرفيين الذين شهدتهم عاكفين على عملهم في محالهم الصغيرة. أي فارق في جدال التجار؟ في خطى الراقص؟ في الأقداح التي لا حصر لها من الشاي والنعناع التي يشربها الزوار هنا؟ أي قدر من الاختلاف في المال؟ أي قدر منه في الجوع؟

أدركت من هم هؤلاء العميان حقا: إنهم قديسو التكرار، لقد تآكل من حياتهم معظم ما لا يزال يراوغ التكرار في حياتنا، هاربا منه. هناك البقعة التي يقعون فيها أو يقفون بها، ثمة الصيحة التي لا تتبدل، هنالك العدد المحدود من القطع النقدية، التي بمقدورهم أن يأملوا في الحصول عليها، هناك المحسنون، بالطبع، الذين يختلفون، لكن العميان لا يرونهم، وطريقتهم في الإعراب عن شكرهم تؤكد، على وجه اليقين، أن المحسنين، بدورهم سواسية جميعا”.

يؤكد مترجم الكتاب كامل يوسف حسين أن كتابة كانيتي “تمنح موضوعها سيولة، تتيح لأجزائه أن تنتقل وتتقاطع وتتوالد وتتآلف، إنها كتابة يلعب الهواء الحر بين سطورها، تقرأ على إيقاع التنفس الصباحي.
بهذه الكلمات أختتم ما يمكن أن نصفه بأوفى محاولة للرحيل في النسيج العقلي لإلياس كانيتي، بقلم عربي· مع ذلك فإن الانبهار والإحساس بالمفاجأة اللذين يضخانها لم يقتصرا على صاحب هذه الكلمات وحدها، وإنما كمنا في الحقيقة في صلب الجانب الأعظم من محاولات تلمس أبعاد عالم كانيتي”·

يقدم كانيتي وصية للقارئ، وصية ربما ثمينة جدا، فحين تكون في مدينة غريبة، مترحلا، لا بد لك من الإنصات إلى ذلك، أو توفير فرصة الإنصات تلك، يكتب “لكي تشعر بالألفة في مدينة غريبة ينبغي أن تكون لك غرفة قاصرة عليك، يحق لك أن تعتكف فيها، تنفرد بنفسك حينما تتعاظم جلبة الأصوات الجديدة، وغير المفهومة، بأكثر مما ينبغي. يجب أن تكون هادئة، لا يرصدك أحد وأنت تغادرها. خير الأمور أن تدلف إلى زقاق، تتوقف عند باب يستكن مفتاحه في جيبك، تفتحه دون أن يسمعك إنسان.

تدلف إلى برودة الدار اللطيفة، ترتج الباب وراءك، تسود العتمة، للحظة لا تستطيع أن ترى شيئا، تبدو كواحد من العميان في الميادين والممرات التي خلفتها لتوك وراءك، لكنك سرعان ما تسترد قدرتك على الإبصار، تلمح درجا حجريا يرقى بك إلى الطابق الأول، في أعلاه تجد هرة تجسد الهدوء الذي طالما تقت إليه، يغمرك العرفان نحوها، إذا ظلت على قيد الحياة، إذن فوجود حياة هادئة أمر ممكن، تجد قوتها دون أن تصيح “الله” آلاف المرات في اليوم الواحد، لا تلقي تشويها، لا ترغم أحدا على أن تذعن لقدر مخيف، قد يكون الأمر قاسيا، لكنك لا تبوح بذلك”.

 

arArabic