الصفحة الرئيسيةرأي

راهن ومآل البشرية المرتبطين ب “الجرعة”

بقلم: سعيد بوخليط

لاشك أن أشهر مقولة تنساب حاليا بين جل الألسن، والتي ستحدد بالمطلق مصير المنظومة الأخلاقية برمتها لراهن ومآل البشرية،تكمن مثلما يلاحظ أيّ متتبع عند توهج غير مسبوق لكلمة عامة وضخمة في صيغة عنوان عريض :الجرعة.

بعد ذلك، يحاول الشراح والمؤولون إيجاد منظومة تفاصيل الهوية وفق منطق التكميم الرياضي والهندسي؛ الأولى فالثانية ثم الثالثة والرابعة… وهكذا دواليك، مع تحديدهم طبيعة الانتماء الجغرافي لهذا المختبر أو ذاك؛ ضمن حتمية الدائرة الضيقة جدا لمنظومة سيادة أو سيادات الكارتيلات والتروستات المالية/السياسية– انتهى إلى الأبد فيصل باقي المرجعيات الأخرى-بمعنى أن التمثل الماقبلي والجاهز المترسخ،بخصوص جهة مصدر الجرعة/الترياق،يمنح المتلقي إمكانية التفضيل اللاواعي بين هذا المنتوج أو ذاك :أمريكا، روسيا، الصين، انجلترا/الهند.

إذن،لكي تستمر حياتك وسط عالم مأساوي يحتضر بعد أن افتقد ينابيع حياته الانسانية منذ زمان،دون رحمة مؤججا عبثا رهانات مجنونة نحو سطوة مختلف أنواع الأسلحة والسموم الفتاكة،ماديا وذهنيا ونفسيا،عليك ثانية أن تصطف ضمن طابور هائل على امتداد البصر،كي تتجرع الترياق الجديد أملا في النجاة بنفسك من فتك فيروس.بعد ذلك،ستتابع نفس فظاعة دوران الكرة الأرضية بالمقدمات عينها التي أخرجت كل كوارث الفيروس ومابعده؛فتتجرع بغير رحمة ولارأفة ذات الآلام وجنس النزيف.

لقد شكَّلت الملحمة الفيروسية،في بدايتها رغم هول الواقعة،لحظة تفاؤل كبرى،كي يتم الإعلان النهائي عن إفلاس منظومة استمرت في الترنح،ثم وصلت إلى منتهاها ولم تعد قادرة سوى على تأثيث الكون البشري بمواطن الموت :اجتثاث الجوهر الإنساني،تخريب المخزون الطبيعي عموديا وأفقيا،تغيير الخرائط الجينية،تلويث البحار والمحيطات،قتل الكائنات البحرية والحيوانية…بالتالي،ضرورة تحقيق القطيعة ويستعيد الكون رشده.

غير أنه،حدث العكس،بعد أولى تجليات استيعاب الصدمة،بحيث انزاح المنحى الايجابي،عن بعده التشخيصي الحاد لأورام سرطانية خبيثة استفحلت واستشرت،أضحى معها الكيان البشري غير قادر تماما على استعادة عافيته سوى بعملية تنظيف شاملة تعيد النظر بشجاعة وجرأة ومكاشفة حقيقة،حيال سياق كل التراكمات التي صبت في غير وجهة السمو بالإنسان،والانطلاق ثانية بناء على مشروع عالمي جديد قوامه التضامن والتبصر والاعتدال.

نعم،زاغت ارتدادات لطمة هذا الفيروس في وجوهنا جميعا،عن سبيل كونه صدمة حضارية قوية هزت الوعي أو المأمول كذلك،كي يقطع مع نسق أوهام طمأنينته السابقة، سواء بالنسبة لمرضى السادية الذين يحيون ويتأبدون على امتداد آلام الآخرين،ورفس أشلاء الجثث،أو أيضا فيما يتعلق بجماعات المازوشيين؛فئة لاتحيا حياة سوى إذا أحست في الزمان والمكان،بوجود فعلي ملموس لمن يحرصون أي حرص على تعذيبهم غاية الجحيم السابع.

لايمكن قط لسياق كورونا،بكل جلجلته الفاضحة،أن يبقي حياة الناس عند ذات التجرع والمكابدة اليومية العسيرة لحيواتهم وفق ذات المنطلقات التي انتهت بالعالم إلى وضعه الجنائزي و لمأتمي وكذا فظاعة ماجرى ويجري.

حسب اعتقادي الشخصي،يمكن تلخيص ماوقع منذ منتصف مارس 2020 غاية اللحظة في جملة واحدة : لم يكن العالم سابقا أفضل؛أو أن البشرية كانت تنعم بحياة قد نصفها بالطبيعية،بل كابدت في خضم فيروسات ماكرو-فيزيائية بثها وكرسها يوميا دهاقنة أو دهاقين الخراب،والناس”طلقاء”–افتراضيا-يتسلون غير مبالين ويمرحون بتجاذب أطراف الكلام على الأرصفة والطرقات،في حين آنيا يتجرعون عصارة آلام فيروس ميكرو-فيزيائي عبر مرايا مهشمة لشرفة سجن هائل بحجم كوكب الأرض أو أكبر قليلا،ألقيت خلف أسواره بغتة وبقوة سرعة الضوء،البشرية جمعاء بدون أحجيات مموِّهة كي تواجه مصيرها الحتمي؛وجها لوجه،متسلحة فقط بالصمت والتأمل مثلما يحدث خلال تجربة الموت.

سيحدد أهل علوم المختبرات،عدد الجرعات الإكلينيكية الواجبة على الفرد حقنها، ربما لن تنتهي حكايتها مثلما تحدس آفاق المعطيات السائدة لاسيما مع الزئبقية السحرية لمفهوم التحول، باعتباره شفرة أشبه بمعادلة رياضية من درجة عقل أينشتاين لايفهمها سوى أينشتاين نفسه؛صاحب المعادلة المطلوب إيجاد حل لها،بمعنى ستبقى طلسما سحريا بالنسبة لباقي العالمين إلى يوم الدين.

غير أن حق الإنسان في الحياة،أكثر كثيرا من وقائع حياة غير عادية تجرع همومها سابقا،بين مخالب صيارفة وحوش الليبرالية المريضة،قبل إعلان كوفيد لملحمة الموت المباشر.إنها تتجاوز بمسافات عميقة وطويلة،مجرد تجرعه محلولا كيميائيا،ربما منحه مناعة غير مناعته التي نخرتها بكيفية ممنهجة وعلى نار هادئة طيلة سنوات خلت،مخططات العقم المراهنة فقط على الادخار والاكتناز الماليين،غير المكترث بالأخضر ولا اليابس،ومن ثمة تحويل كل شيء إلى مجرد بضاعة تافهة للبيع والشراء،تتحدد قيمتها أولا وأخيرا،بمدى مردوديتها التسويقية،لاأقل ولاأكثر.

arArabic