الصفحة الرئيسيةمراكش الذاكرة

مراكش هي المدينة حيث لاتزال ألف ليلة وليلة مستمرة

 
نشر هذا النص سنة 1971 وهو مترجم بتصرف عن أنثولوجيا المغرب في نظرة الآخر
أرثور كوستلير / ترجمة: سعيد عاهد
 
لنحول صورة نمطية إلى مفارقة، قائلين بأن مراكش هي المدينة حيث لاتزال ألف ليلة وليلة مستمرة، في الدرجة الثامنة من خط الطول الغربي· وبما أننا نقرن دائما بين الاسلام والشرق، فقد يبدو غريبا كون الصومعات طفحت هكذا على هامش مهام الكنائس· ثمة كذلك ظاهرة أكثر غرابة، مؤسسو هذه المدينة الإفريقية، وأغلبية سكانها إلى حد الآن من جنس أبيض: إنني أريد الحديث عن البرابرة الملغَزين·
مراكش مدينة بربرية· طابعها وجوها يشيان أنها كانت في الأصل مخيم رحَّل، مركزا تجاريا، معرضا دائما للرجال الوافدين من الأطلس ومن الصحراء··· ورغم موقعها في سهول عطرة، فهي تنتمي للأطلس الذي تحضر قممه ذات البياض الشبحي في كل مكان، فوق أسوارها الحمراء وحدائق نخيلها· وهي تنتمي للصحراء التي يتواجد رُسلها (جمال، رجال زرق، طوارق ورحل آخرون يكسوهم الغبار) حيثما رحلت وارتحلت بالمدينة، ويشعرون أنهم في عقر دارهم بأسواقها· مراكش ـ باختصار ـ واحة أكثر مما هي مدينة، ورغم أنها لاتقع داخل الصحراء، فهي تنتمي إليها···
بزغت الأسوار الحمراء لمراكش، وسط حدائق النخيل، أول مرة، في عام 1062، محيطة بمخيم رحل لحصن· لقد شيدها يوسف بن تاشفين، الذي وفدت قبيلته، على صهوة الجياد والجمال، من جنوب الصحراء، وأطلقت على نفسها اسم المرابطين (المحاربون المدافعون عن الإيمان)··· كان يوسف بن تاشفين رجلا تقيا ومحاربا، عاش حتى بلغ سن السادسة وتسعين وانتهى به الأمر إلى السيطرة على المغرب برمته· قاد عدة حملات في اسبانيا، هزم جيش ألفونس السادس في باداخوز، ثم خلع مختلف الأمراء العرب المنحطين· فتح غرناطة رفرفت رايته على مجموع مناطق اسبانيا المسلمة· في ظل حكم المرابطين، الذي أسسه يوسف بن تاشفين، وصلت الامبراطورية البربرية أوجها الأول، إذ، وخلال مرحلة زمنية لاتتجاوز عمر جيل واحد، تحولت جدران الوحل الجاف المحيطة بمخيم الرحل القديم إلى أسوار لعاصمة الامبراطورية· أطلق يوسف بن تاشفين على نفسه لقب أمير المسلمين، وهو لقب جد قريب من ذلك الذي يحمله الخليفة أمير المؤمنين· هكذا أضحت مراكش بغداد الغرب، لتضاهي مدينة هارون الرشيد بهاء وارتشاء·لكن، وبينما تبدد مجد بغداد بسبب المغول والأتراك والمهندسين المعماريين الطلائعيين، ظلت أسوار مراكش تحتضن الحلم بالعودة إلى الماضي، حلم يهيمن على الواحد منا وهو يحتسي كأس شاي منعنع···
إذا كنت أبدو كمن يكرر نفسه بالحديث مرارا عن هذا اللون الأحمر، فالسبب يكمن في استحالة أي بديل آخر· إنه أولى إحساس يغمرنا حين تدنو الطائرة من المدينة، وهو إحساس لايتبخر بعد مغادرتها، مولدا رغبة نوستالجية في العودة، تمتد المدينة في قلب سهل خصب يسمى بلاد الحمرا، تؤثثه حدائق النخيل والزيتون، وبساتين البرتقال وكل أنواع أشجار الفواكه، إلى حدود أولى خاصرة للأطلس الذي لايبعد سوى بحوالي عشرين كيلومترا· تكسو السهل شبكة من قنوات السقي، تحاذي أسيجة من الصبار أو الأوكالبتوس، مشكلة ما يشبه تخريما سائلا· وسط هذا الفردوس الافريقي، تنتصب الأسوار السميكة بفظاظة نحو السماء، مسيجة المدينة خلف خط مُتعرج يبدو مثل رسم مقرَّن تم إنجازه بعفوية· يتجاوز طول الأسوار خمسة عشرة كيلومترا، تخترقها عشر أبواب ذات تقوسات خلابة ونقوش باذخة··· لقد انهارت بعض جنبات الأسوار، بينما تم إغلاق الثغرات هنا وهناك أو إعادة البناء· عدة مرات، لكن هذا لايكتسي أدنى أهمية، بسبب الحفاظ على الخط المنكسر للرسم الرائع الذي وضعه أعضاء قبيلة ابن تاشفين حول معسكرهم، كما ظل لونه هو نفسه، رغم أن الألوان لاتبقى أبدا على حالها· اللون هذا يتغير بين ساعة وأخرى· لينتقل من الوردي إلى البرتغالي، إلى القرمزي ثم الأصفر، حسب الجو وساعات اليوم· ولا يولد هذا الوضع إحساسا عاما باستمرارية في زحم زمن ساكن، بل شعورا بغياب الزمن وبالتلف البطيء· تتهاوى الأسوار مثل أشجار تتساقط أوراقها·
تبدو الأحياء العصرية، التي شيدت إبان فترة الحماية، متجانسة بشكل مثير مع صبغة بقية المعمار، والأمر يشبه المعجزة، بالنسبة لمن شهد التخريب الذي طال المدن العتيقة عبر العالم· ربما انشده المعماريون الفرنسيون بغواية المكان، ولذا وظفوا نفس المواد الحمراء لبناء مقرات المؤسسات العمومية، التخطيطات المستطيلة، المكعبات الجميلة، الأقواس العربية، الأعمدة النحيفة والبريجات التي نصادفها في مساجد المدينة العتيقة أو في قصبات الأطلس· فيلات الضواحي نفسها تعكس ذات الإحساس العام بالانسجام· ثمة شوارع فسيحة على امتداد خط مستقيم، يُزين جنباتها النخيل، ومنها شارع محمد الخامس (جادة الإليزي المراكشية) الذي يتجاوز طوله ثلاثة كيلومترات، تتقاطع الشوارع هذه في مفترقات طرق تزيدها النافورات بهاء، خاصة وأن اكتظاظ السيارات لم يشوهها بعد· كم سيدوم هذا الوضع السعيد؟ إنها قصة أخرى، إذ نلاحظ، منذ الآن، ورشا أو ورشين ببناء جديديين يثيران التقزز حتى تحت أشعة الشمس الافريقية· لكن، وإلى يومنا هذا، مازالت ثلاثية الألوان (الأزرق/السماء، الأخضر/النخيل)، والأحمر/الأسوار) تهيمن على المشهد···
 
arArabic