الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاثملفات خاصة

كيف تأسست مدرسة محمد الخامس بروض العروس بمراكش

المراكشية : محمد الطوكي

“تعلموا فأول سبيل لرقي بني الإنسان العلم، ووسيلة لتهذيب الأخلاق التي عليها مدار العمران العلم، وسلاح مجاراة الأقران العلم “
من خطبة عرشية لجلالة المغفور له محمد الخامس سنة 1946

تطرقنا في مداخلة سابقة (1) إلى التعليم الذي أنشأته الحماية الفرنسية في المغرب ابتداء من 1912 إلى 1944 وما تميز به من العنصرية والطبقية، وتعرضنا إلى الحصار الذي ضُرب فيه على اللغة العربية والاستخفاف بمعلميها، والتهوين من شأن المواد الإسلامية ، لقد كان الطفل المغربي آنذاك، يستغرق في المدارس التابعة للحكومة في حصص الفرنسية نحوا من خمس ساعات في اليوم، وساعة أو نصفها في لغته الوطنية ، موزعة بين قرآن ودين ولسان، فما اطمأن المغاربة لهذا الأسلوب التربوي الاستعماري، فلهذا لم تمض على هذه الحالة السيئة قرابة عشر سنوات حتى بادر أبناء المغرب الأحرار ابتداء من سنة 1930 في فاس والبيضاء والرباط إلى فتح معاهد (2) للتعليم وكتاتيب للقرآن، أطلق عليها تسترا – مدارس حرة – حذرا من تعرض المستعمر الغاشم لها، فهي حرة لا تلزمه أوتكلفه من ميزانيته شيئا، سواء من حيث التأسيس أو التجهيز أو التسيير، ولم تلبث هذه المدارس أن تكاثرت ابتداء من الثلاثينيات من القرن الماضي، وقد تناسلت كرد فعل على الظهير البربري 16 ماي 1930.


و سيزداد حماس تأسيس المدارس الحرة هنا وهناك بعد الحرب العالمية الثانية .
ففي هذه الحقبة يندرج مشروع بناء مدرسة بني دغوغ بمراكش. لقد اقتفى مشروع مدرسة مراكش خطوات أو المراحل التي سار عليها تأسيس مدارس محمد الخامس بالرباط فجمعية الرباط – كما يقول أحد أعضاء جمعية مراكش “أحسن جمعيات المغرب، ولا نطمع أن يكون لنا أكثر مما كان لها ” (3).
وإذا فمشروع الرباط أصل واحتذى حذوه مشروع مراكش فكاني به فرع عنه .
وهذا يدفعنا إلى التعريف بإيجاز على المراحل التي قطعها مشروع الرباط الأصل المقتدى به، وكيف خرج من حيز القوة إلى الفعل.
في البدء هيمن شعور جمعي أعرب عن نفسه بالحديث في كل أرجاء العاصمة عن الحاجة الملحة إلى مؤسسة تربوية جامعة، في مستوى أقسام المعاهد الفرنسية، فضاء وتهوية واستهواء وبناء وأقساما وتنظيما، بدل ممارسة الفعالية التربوية في غرف الدور والرياضات ذات الغاية السكنية.
– من ذلك الوسط الحامل لهذا الهم انبثقت لجنة ممن لهم غيرة على المدينة، وأخذت على عاتقها القيام بتلك المهمة واتبعت الخطوات الآتية :
– التفكير في موضع لائق بالمؤسسة، وقد وقع الاتفاق على مقبرة قديمة بباب شالة قرب المسجد الأعظم.
– الكتب إلى جلالة المغفور له محمد الخامس بملتمس يشرح حاجة المدينة الملحة لتأسيس مدرسة لأبناء الشعب المتعطش إلى المعرفة، مقترحة المكان الحبسي الذي وقع عليه الاتفاق.
– وبعد مدة وجيزة ورد الجواب الملكي الإيجابي بتسليم المقبرة وتخصيص 10.000م² منها لبناء المشروع، وجعله حبسا على أبناء المسلمين.
– وصباح يوم الثلاثاء 26 جمادى الثانية 1365 هـ موافق 28 ماي 1946م ، اجتمعت اللجنة بجلالة المغفور له محمد الخامس، فعرضت المشروع، وقدمته بكامل تفاصيله وأبعاده التربوية والاجتماعية ومحطات إنجازه وتمويله، فارتاح له جلالته وباركه، وقدم للجنة إعانة مالية افتتاحا منه للاكتتاب الذي سيكون نواة كريمة لتأسيس تلك المجموعة من المدارس قدره : 1.500.000 فرنك. واقتضى نظر جلالته توسيع اللجنة بإضافة عناصر وطنية أخرى.
– وإثر ذلك أصدرت اللجنة تقريرا أو منشورا متضمنا لمجريات اللقاء والحث الصريح على المساهمة في التأسيس. “فالاكتتاب الذي افتتح به جلالته أنعم به من ماله (وفر الله أجره) ليكون قدوة حسنة، ومثالا أسمى “فعلى كافة أغنيائنا أن يساهموا بمالهم في هذا المشروع العظيم قياما بواجبهم، واقتداء بمتبوعنا الأعظم حتى يتم إنجاز البناء على كيفية مشرفة لنا وضمانا لراحة أبنائنا. أحسنوا بتمهيد السبل للعلم الذي هو وسيلة الرقي والسعادة : أحسنوا لتدرك الأمة مستقبل الفلاح، أحسنوا فالله جل جلاله يقول : “للذين أحسنوا الحسنى وزيادة”.
وفي يوم الأربعاء 19 رجب عام 1365 هـ – 19 يونيو 1946 ، أقيم مهرجان عظيم ازدانت فيه أرجاء العاصمة، وتفضل أثناءه أعزه الله عن البدء بوضع الحجر الأساس للمدارس ” (4).
هذه بإيجاز تفاصيل المشروع الذي سيكون نموذج لجنة مشروع مدرسة بني دغوغ في مراكش.
وهكذا لم تمض على تقديم مشروع مدارس محمد الخامس بالرباط سوى أشهر، حتى بادر أبناء مراكش إلى تكوين لجنة برئاسة العلامة محمد المختار السوسي وإشراف باشا مراكش، ورفعت إلى جلالة الملك محمد الخامس ملتمسا تطلب فيه الإنعام على رعاياه من ساكنة الجنوب، بتأسيس مدرسة على النمط العصري، تستجيب هندسته وفضاءاته المتسعة للحاجيات التربوية والتعليمية التي يتطلع إليها رعاياه في الحمراء، تغنيهم عن تشتت الدور والرياضات التي ضاقت عن تلبية حاجة الساكنة إلى العلم، واقترحت اللجنة إنشاء المشروع بالأرض الحبسية الواقعة بروض العروس، والمعروفة ببني دغوغ. وقد قدم المشروع مدروسا دراسة مستفيضة مبينا الأهداف المعنوية والأدبية، مستحضرا النواحي المادية الكفيلة بتحقيقه، كاقتراح مكان المشروع، وتصور لما يمكن أن يكون عليه، فقابل، رحمه الله، طلبهم باهتمام زائد، وأصدر ظهيرا شريفا تخصص بمقتضاه قطعة مساحتها 10.000م² من الأرض الكائنة بروض العروس المعروفة بمقبرة بني دغوغ، وافتتح جلالته، رحمه الله ، اكتتاب التشييد بما قدره 2.000.000 فرنك.
ومن ثم انتقلت اللجنة إلى مرحلة أخرى، إلى إخبار رأي المدينة العام بما انتهت إليه، وما ينتظر منها عبر منشور جاء فيه : ” إن من القضايا المسلمة ، أن العلم هو أساس كل نهوض، وأصل كل خير، وسبب السعادتين الدنيوية والأخروية، وقد صارت هذه الحقيقة بديهية عند الخاص والعام، وصارت كل طبقات الشعب المغربي تتلهف على تعليم أبنائها، وتحقق أن سر النجاح في ميادين التجارة والفلاحة والصناعة العلم. وأن المغرب فوق كل هذا متوقف على الأطباء والمهندسين والأساتذة والمعلمين والمحامين وكل ذلك لا يدرك إلا بالإقبال على العلم، وأن لسيدنا ، نصره الله، الساهر على مصالح أمته المادية والأدبية، الفضل الكبير في بعث هذه الرغبة في الأمة المغربية بما يسديه إليها في هذا الباب من النصائح والإرشادات، فهو، وفقه الله وأعانه، ينتهز كل فرصة ليحض المغاربة بشأن العلم والتعليم، ولا ننسى آخر ما حثنا به على التعليم في خطابه الذي ألقاه في عيد العرش الأخير، إذ يقول نصره الله : “تعلموا، فأول سبيل لرقي بني الإنسان العلم، ووسيلة تهذيب الأخلاق التي عليها مدار العمران العلم ، وسلاح مجاراة الأقران العلم”.
ولم يكتف بدعوة أمته لذلك، بل كان لها أحسن أسوة، وأراها سبل العمل المنتج بما أسسه من المدارس، وما أصلح من المؤسسات العلمية، وأعان به الجمعيات الثقافية، والطلبة في الداخل والخارج ؛ الأمر الذي تلهج به كل الألسنة ثناء عاطرا على صاحب التاج المفدى بالمهج.
وإن من آخر عناياته الجليلة إجابته لسكان مراكش الذين دفعتهم الغيرة على أبناء هذه العاصمة الجنوبية لتأسيس مدرسة تجمع شتاتهم، وتثقف عقولهم وتهذب أخلاقهم، فالتمسوا من الجناب العالي بالله، الإنعام عليهم بأرض حبسية لبنائها، فقابل طلبهم باهتمام زائد، إذ طالما تمنى أعزه الله أن ينجز مثل هذا المشروع التعليمي بمراكش كما أنجز بعاصمته الإدارية ، وأصدر ظهيرا شريفا تخصص بمقتضاه قطعة مساحتها 10.000 م² من الأرض الحبسية الكائنة بروض العروس المعروفة ببني دغوغ لتبنى بها مدارس تناسب روح العصر، وتحبس على أبناء المسلمين، وعين لجنة تحت رئاسة الباشا للسهر على تنفيذ هذا العمل المبرور، وجعلها تحت إشرافه المباشر، ثم افتتح، أيده الله، الاكتتاب لتشييد البناء بما قدره : 2.000.000 فرنك، أنعم به من ماله الخاص (وفر الله أجره) ليكون قدوة حسنة، ومثالا أسمى .
فعلى كافة أغنيائنا أن يساهموا بما لهم في هذا المشروع العظيم قياما بواجبهم، واقتداء بمتبوعنا الأعظم، حتى يتم إنجاز البناء على كيفية مشرفة لنا، وضامنة لراحة أبنائنا.
أحسنوا بتمهيد السبيل للعلم الذي هو وسيلة الرقي والسعادة.
أحسنوا لتدرك الأمة مستقبل الفلاح والسيادة.
أحسنوا فالله جل جلاله يقول “للذين أحسنوا الحسنى وزيادة” يونس /26.
– واقترن المنشور بصيغة وصل التبرع النموذجي، ونصه :
وإن من تسارع لإجابة نداء الواجب السيد : …………………….. الذي تبرع بمبلغ قدره : ……………….. فرنك جازاه الله خيرا ووفقه وكافة المغاربة إلى ما يرضي الله تعالى، ويثلج صدر أمير المومنين، متعه الله بكل خير، وأطال عمره في الصالحات بمنه وفضله آمين (5) “.
فهذا المنشور موجه إلى عامة ساكنة الحمراء، وبخاصة إلى الأعيان والأغنياء وكل من له غيرة على المدينة ، فأسلوبه حجاجي بامتياز، يستثير أريحية من استهدفه إلى المساهمة المادية الكفيلة بإخراج المشروع إلى حيز الوجود، لينتفع به أبناء المسلمين .
فقد تطرق في متواليته الحجاجية إلى العلم وأهميته ودوره في رقي الأمم ماديا ومعنويا وهو هم من هموم جلالة المغفور له محمد الخامس، عبر عنه في غير ما مناسبة، وجسده عمليا في بناء المؤسسات وإصلاحها وتنظيمها، وأعان على طلب العلم داخليا وخارجيا، ومن مظاهر تلك العناية تسليم أرضية بني دغوغ والمساهمة المادية المباركة، كما تضمن المنشور الاستدلال على فضل الاكتتاب وادخار أجره وجزائه بأدلة عقلية ونقلية .
وقد ذيل المنشور بنموذج لوصل الاكتتاب الذي تضمن بدوره دعاء للمتبرع إرضاء لله، واقتداء بمبادرة صاحب الجلالة.
ولم تمض سوى أشهر معدودة، وبالضبط في يوم رجب 1366 هـ /1946 حتى لبست عاصمة الجنوب حلة رائقة من أنواع الزينة والفخار ؛ بمناسبة حلول جلالة الملك بين ظهرانيها. أثناء تلك الزيارة الميمونة أقيم مهرجان عظيم تفضل أثناءه صاحب الجلالة، بوضع الحجز (6) الأساسي لمدرسة بني دغوغ التي ستشرف بحمل اسمه، وبعدما وضع جلالته، أعزه الله ، لحجر الأساس قام العلامة محمد المختار السوسي، بصفته رئيس اللجنة المكلفة بالمشروع ، بإلقاء كلمة بين يدي جلالته هذا نصها :
“الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه .
مولانا صاحب الجلالة :
إذا كان عصر المولى إدريس عصر الفتوح، وعصر تثبيت المبادئ الإسلامية في المغرب. وكان عصر ابن تاشفين ويعقوب المنصور عهد ازدهار برفع علمه الخفاق على كل ما إليه برا وبحرا من الأصقاع المترامية حواليه، وكان عصر أبي الحسن المريني وأحمد الذهبي عهد النشر للآداب العربية والتأسيس لنوع خاص من المدارس والمكتبات العمومية، فإن عصر دولتكم الشامخة عهد يشاهد فيه كل ذي عينين الاهتمام بذلك كله وزيادة، وما يوم حليمة بسر، فمن ذا الذي لا يرى آثار المولى الرشيد والمولى اسماعيل والمولى محمد بن عبد الله، آباء مولانا الذين تناولت بهم يد هذه الإيالة الشريفة الثريا في المعارف والأخلاق والأفكار، فكأننا بأنباء هذه النهضة المباركة التي بذر مولانا بذورها ترددها القرون بالبحث المستفيض غدا، كما ترددها بالإعجاب أسلاك العالم اليوم .
أية معجزة يا مولانا هذه، فقد نفخت همتكم في شعبكم ما نفخت وثابة إلى المعارف، فتجارت أنحاء إيالتكم الشريفة نحو العلوم تجاري خيل الحلبة في مضمارها، ففي كل يوم ترون بين أيديكم براهين ساطعة لهذا السالف المحمود والتنافس العجيب.
وهذه عاصمتكم الجنوبية مراكش، يا مولانا، تمثل اليوم بدورها أمامكم بكل إجلال تقدم شكرها الفياض من أعماق قلوب بنيها، على التفاتكم نحوها بتأسيس مدارس روض العروس الحرة بإنعام جلالتكم الشريفة لخطتها، وبافتتاحكم مشروع الاكتتاب لتشييدها بملايينكم السعيدة، وبتنازلكم إلى وضع الحجر الأساسي لها بيدكم المباركة .
فقد جاءت ملايين مولانا بكل يمن في المشروع، فتدفقت إثرها بكل رضى ملايين كثيرة من المراكشيين الكرام حتى تجمع في وقت قريب نيف وثلاثون مليونا.
وهذا خادمكم المشهور بكل مكرمة السيد الحاج التهامي باشا عاصمتكم الجنوبية، الذي يعرف مولانا ما يعرف من الإخلاص والتفاني في تنفيذ كل ما تشيرون إليه، يتقدم أمام عرشكم أولا، ثم أمام ولي عهدكم أمير الأطلس المحبوب ثانيا، نيابة عن مراكش، ونيابة عن اللجنة التي تعمل في المشروع تحت إشارته ليرفع إلى عرشكم العالي الشكر الخالص على هذا المشروع الجليل. ولمولانا، أدام الله نصره وتأييده وحفظه، المنة والفضل أولا وأخرا، والسلام عليكم ورحمة الله” (7).
تعتبر أربعينات القرن الماضي التي كان من وقائعها تـأسيس مدرسة بني دغوغ، بمراكش في رجب 1366 هـ/ 1946م حقبة مهمة في تاريخ تأسيس وتدشين المعاهد الحرة في المغرب، فأثناءها اهتزت أريحية عدة طبقات فتسارعوا إلى تأسيس مدارس ومعاهد وشت مختلف مدن المغرب، وشرفت بتدشين عاهل المغرب محمد الخامس، أو عهد بها جلالته غاليا إلى سمو ولي العهد مولاي الحسن، أو الأميرة للاعائشة. فعن حظوظ مدينة مراكش من تلك المكرمات يقول العلامة عبد الله الجراري، مسجلا حدث زيارة ملكية في ربيع يرجع إلى منتصف الأربعينيات : ” حل الركب الملكي بعاصمة لمتون – مراكش – فكانت بها أيام مشهودة، تجلى فيها النشاط الثقافي بأجلى مظهر، مدارس حرة تفتح هنا وهناك، فمن مدرسة الفلاح للمحسن المرحوم مولاي علي (8) البعمراني بباب دكالة درب الحلفاوي، إلى مدرسة العبدلاوية الحبسية بالباب نفسه، ومنها إلى القصبة حيث دشنت مدرسة أخرى لنفس المحسن البعمراني، كان يديرها الشاعر المدني الحمراوي، الذي فاه بكلمة ختمها بقطعة شعرية في الثناء على همة الزائر الكريم .
ومن المهرجانات الرائعة المهرجان الذي جرى بكلية ابن يوسف، وتبارى فيه الطلبة بإلقاء أناشيد ومحاورات، خاصة المحاورة الشعرية التي دبجها يراع المرحوم الشاعر محمد بن ابراهيم (1900-1954) بين القديم والجديد أمام سمو ولي العهد المولى الحسن، إذ جاءت في صورة رواية ممتعة” (9

arArabic