الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

رحيل المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط

توفّي المفكر والأكاديمي والمؤرخ التونسي هشام جعيط، اليوم الثلاثاء، عن عمر ناهز 86 سنة، ونعى رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد المفكر الراحل قائلا إنه كان “شخصية وطنية فذّة وقامة علمية مرموقة ستظلّ ذكراها خالدة في تاريخ الساحة الثقافية في تونس والعالم العربي والإسلامي”.

يوصف جعيط (ولد 1935) بأنه المفكر الذي كان وما يزال وفيا لشخصيته لا تابعا لغيره، والمؤرخ الذي تعامل مع الوثيقة دون الرضوخ لعصا السلطة، بالرغم من كونه ابن عائلة من المثقفين والقضاة وكبار المسؤولين من الطبقة البرجوازية الكبيرة في تونس العاصمة، فهو حفيد الوزير الأكبر يوسف جعيط، وابن أخي العالم والشيخ محمد عبدالعزيز جعيط.

والتقى برنامج “المشاء” على شاشة الجزيرة في حلقة بتاريخ (2018/10/11) المفكر والمؤرخ التونسي الراحل، حيث شرح بعضا من أفكاره ورؤاه معرجا على لقطات من حياته العلمية.

الدراسة والألم والمجد الاجتماعي

درس جعيط بالمدرسة الصادقية بتونس، وعنها قال إنه ممتن لأبيه لأنه لم يدخله مدرسة فرانكفونية، مما جعله يتقن اللغة العربية، بالرغم من أن أباه كان حداثيا يميل للثقافة الفرنسية.

واصل جعيط دراسته في العاصمة الفرنسية باريس، التي قضى فيها 8 سنوات قبل أن يعود إلى بلده ليتألم بجو “الديماغوجية والديكتاتورية” بحسب وصفه، وبالرغم من أنه لم يشارك في الحياة السياسية في فرنسا، فإنه كان يراها بلدا حرا.

يقول جعيط إنه حين عاد إلى بلده رأى ناسا نصف متوحشين “وجدت نفسي أعيش في بلد بدائي ومتخلف، وعائلتي انقلبت على نفسها وقيمها، أبي كان شيخا في جامعة الزيتونة، أزيحت جامعة الزيتونة بطلب (الرئيس التونسي وقتها) الحبيب بورقيبة، ولم يتألم أبي لفقدان هذا الصرح العلمي، بل تألم لموقعه الاجتماعي الذي ألغي، لأن المشايخ صاروا محتقرين، خاصة أن الناس يتبعون دين ملوكهم”، وفق وصفه.

ويرى جعيط أن الاستقلال أحدث تغييرا اجتماعيا كبيرا في تونس، حيث صارت الدولة بأيدي من هم في الطبقة البرجوازية الصغيرة قديما، ونجحوا في الحركة الوطنية، ومُسحت جامعة الزيتونة، وصار المجد الاجتماعي والهيمنة لمن دخلوا في الدولة.

ويقول “كانت الدولة الجديدة سلطوية وعصبية، بورقيبة كان متأثرا بنظرية العصبية لابن خلدون، لذا كانت عائلتي تشعر بأنها محتقرة، وترغب مثل كثيرين في أن تستعيد شيئا من الوجود الاجتماعي. وكانت الشهادة العلمية هي المفتاح الوحيد للرخاء الاجتماعي”.

المؤرخ الناقد

لم يكتف هشام جعيط بدراسته للتاريخ بما تلقاه على مقاعد الدراسة، بل دفعه عشقه له إلى القراءة للمؤرخين والمستشرقين بنهم ويقظة، فتعلم منهم الأسلوب الصحيح لكتابة التاريخ، حتى تحول إلى أحد أبرز المؤرخين، ليس في تونس فقط بل على مستوى العالم.

برنامج “المشاء” في حلقة (2019/1/24) رافق جعيط، وتحدث معه عن بداياته بالاهتمام في التاريخ، حتى أصبح أحد المفكرين والمؤرخين الذين يشار إليهم بالبنان.

بدأ جعيط باكورة أبحاثه عن أفريقيا وبلاد المغرب، وكتب عن أفريقيا في مجلات أوروبية مرموقة، وبعد ذلك بدأ يتجه إلى قراءة ما كتبه المؤرخون والمستشرقون عن التاريخ الإسلامي وتاريخ الأديان.

واعتمد جعيط على ما كتبه أحد الكُتاب عن الكوفة، فألف كتابا بعنوان “الكوفة”، تحدث فيه عن القبائل العربية وكيف تكونت أول مدينة عربية، ولم يكن لديه أي أفكار إيجابية عن عهود الازدهار والكلاسيكية الإسلامية والفترة العباسية والبذخ العباسي واتساع المملكة الإسلامية، وقد استهوته هذه المواضيع أكثر من دراسة البلاط العباسي والأمور المماثلة لذلك.

كما ركز جعيط في كتاباته اللاحقة على استيطان القبائل العربية وتكوينهم للمدن، والنظم التي فرضت في هذه المدن بسرعة كبيرة، وناقش أيضا الفترة الزمنية التي امتدت 20 سنة من حياة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- و10 سنوات بعد وفاته، وكيف تكون الدين وانتشر في الجزيرة العربية بعد مواجهته لمعارضة شديدة، وكيف تمت “هيكلته”.

وما لفت انتباه جعيط هو كيف تكونت الإمبراطورية الإسلامية بعد هذا بـ20 سنة، فكان اهتمامه بهذه الفترة التحولية الكبيرة.

ويوضح جعيط أن ما استهواه في الدولة الإسلامية والدولة الأموية هو عبقرية الشعب، و”قد عدت لعقد مقارنات في الحضارات القديمة لأن المقارنات تستهويني”.

أفريقيا والعباسيون والفتنة

وتحدث جعيط “للمشاء” عن مشروعه كتاب “أفريقيا”، حيث لاحظ أن الأفريقيين يعتمدون على المصادر الشفوية لا المكتوبة، لكن المستشرقين لا يعتمدون على المصادر الشفوية، وهو يرى أن المصادر الشفوية مهمة مع إخضاعها للنقد لبيان إن كانت معقولة أم غير معقولة.

لكن المؤرخين المسلمين كان لهم حس موضوعي -بحسب جعيط- وكانوا يسعون للمحافظة على الأحداث التي جرت وهذا سبب الكتابة عندهم، وكان العباسيون يشجعون المدونين على كتابة التاريخ الأموي، ليس لأسباب سياسية وإنما لمقولتهم إن ديوان العرب الشعر.

أما كتابه “الفتنة” فقد حظي بتداول جماهيري واسع، وطبع منه 8 طبعات، والسبب أن الجماهير ترى أنها تعيش في فتنة.

وتحدث أيضا عن مؤلفه “السيرة النبوية” الذي امتد في 3 أجزاء، يتناول الجزء الأول الوحي بصفة عامة وتاريخ المقارنة بين الأديان، حيث يتعرض فيه لفكرة النبوة “الانخطافية” أو “اللدنية” (لحظة تلقي الوحي) وهي البادئة في مكة، وعلاقة الجنون بالنبوة والتوتر النفسي. أما الجزآن الثاني والثالث فقد ركز فيهما على التاريخ المحض، ودرس عن كثب تطورات الدعوة الإسلامية وما حدث بصفة دقيقة بالاعتماد على المصادر المتواترة.

أما كتاب “الرسول في المدينة”، فيصفه بأنه أصعب كتاب عنده من حيث أحداثه، موضحا أن الصعوبة تكمن “في التفكيك بين كل القوى الموجودة، ولماذا المدينة استقبلت النبي، وكيف وصل النبي خلال 10 سنوات إلى تكوين أمة وأن ينتشر الإسلام من جنين دولة وليس دولة كاملة، وكيف وقع بعض الانتشار في حياة النبي فقط”، ويقول إنه اتبع خطا يفسر هذا النجاح قد يكون مقبولا، بحسب وصفه.

وقسّم طريقة كتابة المسلمين عن الرسول عليه السلام إلى نوعين: كتابات دينية أو دفاعية ضد المستشرقين، ورأى أن ما كتبه مستشرقو القرن العشرين فيه بعض النواحي الإيجابية، و”أنا قد استفدت منها، وسعيت لكتابة تاريخ النبي بطريقة تكون أقرب إلى الوقع، حتى لا تتحول لمديح”.

arArabic