الصفحة الرئيسيةرأي

الفيسبوك العربي..أنا في المطار وإعلانات الموت

سعيد بوخليط / أرشيف المراكشية

منذ سنوات قليلة ، اكتشفت الشعوب العربية، دون سابق أرضية معرفية كما حالها مع كل صيحات التقنية، سحر الفيسبوك، فصارت علاقتها به، خاضعة لمنطق السحر، وليس العقل. غير،أن أهم فضل سيذكره تاريخ هذه الشعوب، لتلك المنظومة العقلانية المذهلة، كونها ساهمت مساهمة حاسمة، في القذف ببعض جلاديها، الذين أذاقوها المرارة، نحو مزابل التاريخ.

واقعة، اعتبرت أصلا، مستحيلة قياسا لمعطيات الواقع، ومندرجة فقط ضمن القدرات الخارقة لتعازيم السحر، وخوارق السحرة غير العادية، قبل الانقياد المطلق، خلف منطق الفيسبوك.

هكذا، أضحى الأخير وحتى اللحظة، المؤسسة السياسية العربية الوحيدة، مع انعدام الثقة في القوى التقليدية، التي بوسعها تأطير وتعبئة ومركزة وتوجيه وتفعيل، رغبات وهواجس وتطلعات شعوب المنظومة، ثم تحويلها إلى قوة مادية ملموسة.

ومادام الأمر، يتعلق بالبوح التطهيري، فلا شك أن اشتغال الفيسبوك حسب توظيفه العربي القائم، يشكل متنا خصبا ووثيقة دسمة، للمختصين النفسانيين والسوسيولوجيين، من أجل فهم واستيعاب دلالة التمزق السيكولوجي، الذي تكابده الذات العربية، نتيجة تراكم عقود طويلة من العنف والتسلط، فاختلط لديها، كل شيء بكل شيء، وصارت تكرر وتجر يومياتها السيزيفية، وفق مفارقات مرضية رهيبة، بين ما تريده وما تعيشه، ما تظهره وما تخفيه، ما تحس به وما تمارسه.

خصام مازوشي، بين قلب العربي ولسانه، عقله والمجتمع، ضميره والمجموعة، رغبته الدفينة والقائم، حاجته والجاثم، سعيه والممكن، إلخ.

طبعا، من منا لم يقرأ في هذا الإطار، خلال سنوات مراهقته الأولى، كتاب مصطفى حجازي”سيكولوجيا الإنسان المقهور”، و”التحليل النفسي للذات العربية”لعلي زيعور، نصوص تأويلية فاضحة، لنوعية ردود الفعل السلوكية المختلة اختلالا، المرتبطة ارتباطا جذريا ببنيات منظومة الاستبداد الشمولية، المدعية باستمرار للامتلاء والكمال والسداد والصواب.

أيضا، من منا لم يتنفس بكيفية من الكيفيات، الإشعاعات السامة، لرواسب أنساق هزيمة 1967، ذاتيا وموضوعيا.

هكذا، وأنت تطوي حاليا كثيرا من صفحات الفيسبوك العربي، وعلى ضوء تراكمات سيكولوجيا القهر والتعنيف، فلا شك أن توصيفا يثير الانتباه،بالدرجة الأولى. أقصد، الادعاء والرياء السيكوباتي، الذي لاينتج بالضرورة، سوى التناقضات المفرطة هستيريا، مثل : أنا في الحج، أنا أصلي، أمد متسولة بقروش، أتناول الطعام في مطعم فاخر، أنا في المطار، على وشك الصعود إلى الطائرة، صورة”سيلفي” مع المضيفة، أقبِّل رجل أمي، آخذ بيد جدتي نحو فراشها، أربت على كتف أبي…، في المقهى، وسط المسبح، أنا نائم، أحلم …،ثم يتدفق صبيب تعليقات تافهة وسطحية، تراهن جميعها بفولكلورية فجة على استحسان المعروض، والدعاء لصاحبها بمزيد من العطاء السماوي والأرضي. لكن،في المقابل، يطمع أصحابها حقيقة وأساسا، أن يتحفهم مستقبلا نجم الحلقة، بذات الصنيع مديحا وإطراء، عندما يضعون بدورهم أشياء من هذا القبيل على صفحاتهم، ماداموا يشرئبون بنفس القوة إلى الأسانيد الوهمية، قياسا    لمجتمعات تنمي أساطير الوهم والهذيان، ل”لايكات”الحشد، تلك اللمسة التي لا تقدم وتؤخر.

أما المفارقات المَانوية السوريالية، والتي قد لانرصدها سوى على متون الفيسبوك العربي، فهي من هذا القبيل :قرآن، وفي الجانب الآخر صور بورنوغرافية. أقوال ثورية لغيفارا، أو استحضار لبعض وصايا حكماء الإنسانية. ثم، الدعوة في ذات المقام، للتصويت على إحدى مغنيات حانات الدرجة غير القابلة للتصنيف. رسالة طويلة وعريضة، أورده صاحبها للإمام ”إكس”، كي نتعظ معه ومن خلالها، فلا ننساق وراء فتن النفس والشهوات، وبعدها بقليل، عرض لآخرصور، أكثر الأثداء إثارة، لدى شقراوات هوليود… .

هكذا، وضمن المسار نفسه،أظهر التوظيف العربي للفيسبوك، عن مستجد غريب شكلا ومضمونا، لكنه ينسجم فعلا تمام الانسجام مع اغتراب الفرد داخل مجتمعاتنا، عن ذاته وأحاسيسه الحميمية، ومتاهة الشيزوفرينيا التي أهلكت النسل والحرث . يتعلق الأمر، بمستجدات الإعلانات عن خبر الموت، وقد يكون للتو طريا، فيستتبع المُعلن الخطوات، منذ مجيء عزرائيل حتى الاحتضار، ثم تشييع الجنازة وجلسات طقوس العشاء، بحيث لا يتوقف عن فتح حاسوبه بين الفينة والثانية، وهو في عز “مصيبة الموت”، كي يرصد متلصصا على أعداد المقتسمين والمشاركين والمعلقين، وهل بلغ سجل “أحِبّ”مدى قياسيا يدخله كتاب غينيس، أم ليس بعد؟ وربما، اشتبك في سجال خصامي مع الذين لا”يحبون”، لأن امتناعهم عن التصويت، يعرقل سبيله ذاك.

يا أخي، كم صار الزيف، يسوس دواخلنا! الموت،حقيقة وجودية في منتهى الهول والفزع والجدة، تفرض على الذات صمتا وتأملا عميقين، حيث يبدو العالم وقتها مع كل تضميناته الزمانية والمكانية والبشرية، بلا قيمة تذكر وعبثا مطلقا، أمام واقعة وجودية بهذه الجسامة. ربما أتينا إلى الحياة بقرار، لكننا بالتأكيد وعلى الإطلاق، نموت بلا قرار.

إذن الموت، موقف كنهه، أن تعيشه وحدك بتجرد وشاعرية وتسام عاطفي وطهر وإخلاص مشاعري مطلق، دون أن تنحدر به،إلى حضيض مسوغات تسويق الليبرالية المتوحشة، للأحاسيس البشرية، فقط لتحقيق أهداف محض مالية وحياتية عابرة.

arArabic