الصفحة الرئيسيةمراكش الذاكرة

الطباعة : بعدها الوطني في مراكش في ثلاثينيات وأربعينيات ق ال 20

محمد الطوكي : كلية آداب مراكش. 

 يقول ادريس العمراوي (ت 1878) عن الطباعة في رحلته السفارية إلى فرنسا الشبيهة بتقرير مرفوع إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن  (1822-1859) : “وهذه الآلة التي اتخذوها للطبع هي في كل الأمور عامة النفع، معينة على تكثير الكتب والعلوم وأثرها في ذلك ظاهر معلوم … ونطلب الله، بوجود مولانا أمير المؤمنين، أن يكمل محاسن مغربنا بمثل هذه المطبعة، ويجعل في ميزان حسناته هذه المنفعة”.

إدريس العمراوي : تحفة الملك العزيز بمملكة باريز

ارتأينا أن يكون مدخلنا لهذا الموضوع موجزا، نتناول فيه التعريف بالطباعة وأنواعها وعلاقة المغرب، بصفة عامة، بتلك الأنواع، لنخلص إلى حظ مراكش من هذه التقنية. وسيكون نموذجنا مطبعة التقدم الإسلامية بمراكش، وسنركز من خلالها على المقاربة الوطنية انطلاقا من دلالة الاسم الذي اختير لها، كما سنتناول بعضا من ثمراتها الوطنية المخزني منها والثقافي .

فما الطباعة ؟ : إنها “فن أو عملية نقل الحروف والرموز أو الرسوم عن طريق الضغط فوق الورق أو غيره من المساحات القابلة للطبع، باستعمال مـــواد معينة كالحبــر أو الصمغ الزيتي (2)” .

وإذا أطلق مصلح الطباعة فإنه يشير إلى مختلف العمليات التي تؤدي في النهاية إلى صناعة المطبوع وإخراجه في شكله النهائي .

وقد مرت الطباعة تاريخيا بثلاث مراحل لكل منها خصائصها وتقنياتها :

1 – الطباعة التيبوغرافية، وتدعى طباعة متحركة، من اختراع الألماني يوهان غوتنبرغ Gutenberg في أربعينيات القرن الخامس عشر .

2 – الطباعة الحجرية Lithographie، وتسمى أيضا بالطباعة الكيميائية ؛ وهي أيضا من اختراع أحد الألماينين وهو سونوفيلدر (A.Senefelder) خلال التسعينات من القرن الثامن عشر .

3 – الطباعة بالصفائح المعدنية  Matrices التي يجهل اسم مخترعها (3)

فالطباعة بهذا الاعتبار ظاهرة أوربية تتعلق بإنشاء دار أو ورشة للطباعة بكامل مقوماتها. وإذا كانت الطباعة قد اكتشفت سنة 1453م، فإن المغرب لم يقبل عليها إلا في سنة 1864 أي بعد أربعة قرون من اختراعها، وبذلك يعتبر من أواخر الدول الإسلامية التي استعملتها، وذلك التأخير عائد إلى عدة أسباب سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية (4) ليس هذا محل التطرق إليها .

هذا وإن دخول المطبعة إلى المغرب لم يكن شأنا مخزنيا، وإنما هو مبادرة فردية جاءت على يد قاضي تارودانت محمد الطيب بن محمد السوسي التملي الروداني (ت 1282هـ -1865م). اشترى الروداني، من مصر عند أوبته من الحج مطبعة حجرية يظهر من ملابسات اقتنائها أنه أرادها لنفسه، ولتشغيلها وصيانتها استقدم معه بعقد طباعا مصريا يدعى محمد القباني، بيد أن المطبعة ما أن حطت بميناء الصويرة حتى حازها السلطان محمد بن عبد الرحمان من القاضي الروداني، ونقلها ومعها الطباع المصري، الذي لن يعود إلى مصر إلا في سنة 1871، نقلها إلى مكناسة حيث وظفت لأغراض مخزنية وتعليمية. وسيكون هذا نفس ديدن المخزن، فيما بعد، مع الطباعة السلكية التي ستدخل إلى المغرب، على يد الزاوية الكتانية، حيث سيصاردها لخدمة مخططاته السياسية والتعليمية .

وبخصوص قضية تدخل المخزن في الطباعة يمكن التمييز بين أربع مراحل وذلك في الحقبة الممتدة بين 1865-1912.

وهكذا ففي الفترة بين 1865 -1871 انفرد المخزن بنفسه بالإشراف على تسيير شؤون الطباعة في البلاد، لكن مصير الطباعة في المغرب قد انتقل من حيث التسيير خلال المرحلة الثانية والثالثة ما بين 1872 و 1907 من أيدي المخزن إلى أيدي الخواص، غير أن المخزن واصل خلال هاتين المرحلتين استعمال الطباعة في بعض المناسبات لخدمة  أغراضه الدينية والسياسية وخاصة مع المولى الحسن(1873-1894) والمولى عبد العزيز (1894-1908). فقد أصبح المخزن وقتئذ على وعي تام بمدى الأهمية التي تحتلها الطباعة كأداة سياسية ذات فعالية كبيرة ، بل شرع في الاتجاه نحو تقنين الطباعة وفرض الرقابة على الإصدارات .

وبذلك يكون قد فسح المجال أمام بداية المرحلة الرابعة التي ابتدأت ما بين 1908-1909 مع وصول السلطان مولاي عبد الحفيظ (1908-1912) إلى السلطة (6).

ويكفي أن نشير تاريخيا إلى أن المخزن في هيمنته على المرحلة الأولى كان يضع رهن إشارة جامع القرويين عشر مجموع الكتب التي كانت تصدرها المؤسسة بالمجان. وبخصوص التوزيع  في مراكش، فقد أمر سيدي محمد بن عبد الرحمن ابنه مولاي الحسن، الذي كان خليفته في مراكش، بأن يقوم بفتح متجر هناك للإشراف على توزيع الكتب بالمدينة المذكورة وبأحوازها … ويبدو أنه نجح في توزيع مائتين من أصل ثلاثمائة نسخة من كتاب التحفة على الناس، وعلى مختلف مؤسسات الأوقاف الموجودة بمدينة مراكش والمناطق المجاورة لها . (7)

أما المرحلة الرابعة فمن التحولات المهمة التي حدثت فيها المطبعة السلكية، إعلان السلطان مولاي عبد الحفيظ عن تفضيله للطباعة التبوغرافية على الطباعة الحجرية، حيث طبع فيها العديد من مؤلفاته (8) وبه اقتدى مجموعة من العلماء ..

” والسبب الذي جعل السلطان يفضل المطبعة ذات الحروف المتحركة أي السلكية بدلا من الاستمرار في استعمال المطبعة الحجرية، التي كانت رمز صيانة الخط  المغربي ، هي قدرة الطباعة التيبوغرافية Typographie – السلكية- على إصدار أعداد هائلة من النسخ تفوق قدرات الطباعة الحجرية بعدة آلاف نسخة. هذا بالإضافة إلى كون الطباعة التيبوغرافية تتميز بخطوطها الموحدة. وبإتاحتها الفرصة أمام القارئ المغربي وأمام غيره من القراء المسلمين الذين كان يرغب السلطان في الوصول إليهم من خلال كتاباته وهذا الاختيار ساهم في القضاء على أصحاب الطباعة الحجرية وعلى نفوذهم. ولهذا فإن ما تم طبعه حجريا بعد 1912 كان قليلا جدا، لأن الطباعة الحجرية كانت قد دخلت مرحلة الموت البطيء الذي أودى بحياتها بصفة نهائية، وقد يعتقد معتقد أن نهايتها عائد إلى السلطات الفرنسية التي أقدمت سنة 1946 على تحطيم آخر آلة  للطباعة الحجرية  في المغرب (9).

وقد بلغ مجموع النسخ الصادرة عن المصانع المغربية بين سنتي 1865 -1920 أكثر من 38000 نسخة جلها في العلوم الشرعية. فبخصوص المصحف فقد طبع أول مصحف مغربي في هذه الفترة. ويعتبر الطيب الأزرق أول طابع مغربي أقدم عــلى ذلك سنة 1879، ولم يكن في المغرب قبل ذلك بعقود، من خطر بباله طبع القرآن اعتمادا على وسيلة مسيحية الاختراع. (10) وقد بلغ عدد الإنتاج الذي حققه الطيب الأزرق، طيلة حياته، ما بين الثمانية آلاف والعشرة آلاف من مجموع ما طبع، وعدد العناوين التي طبعها تسعة وعشرون عنوانا بمعدل يتراوح بين ثلاثمائة أو أربعمائة نسخة من كل عنوان. وقد احتلت أدبيات التصوف من هذا المجموع العام أبرز مكانة على الساحة الفكرية، كما احتلت كتب الفقه المالكي الحيز الأكبر من البقية الباقية. أما الأدبيات السياسية، بخلفيتها الدينية، فعددها بسيط لا يتجاوز العشرين عنوانا، عالجت مختلف قضايا الساعة التي كانت تهم البلاد. فمن القضايا السياسية التي تناولها هذا الصنف من المطبوعات ؛ قضية الجهاد ضد البلدان الأوربية الطامعة في احتلال المغرب وخاصة فرنسا. وقضية مدى جواز التعاون بين المسلمين وأعدائهم من الغزاة الأوربيين وقضية الحرية ومفهومها الإسلامي والأوربي، وقضية استهلاك المسلمين  للسلع التي يتجر فيها الأوربيون، كالشاي والسكر والشمع وغيره، وقضية الضرائب وتحديث الجيش (11).

إن حلول المطبعة في المغرب سنة 1864 قد شكل بداية انطلاقة عهد جديد، فهي مؤشر بدأت البلاد معه تفقد العديد من خصوصيتها الوسطوية، وتسير بخطى وئيدة نحو التحول تدريجيا إلى بلد تغزوه مظاهر الحداثة يوما بعد يوم، وكدليل على ذلك التحول فإننا نلاحظ أن زمان المخطوط، الذي كان حكرا على النخبة المتبوئة لأعلى السلم الاجتماعي قد تولى، ففي عصر الطباعة أصبح عامة القراء هم الذين يشكلون الزبون الرئيسي لصناعة الكتاب، وهم أنفسهم عمدة الكاتب بدل تبرعات الطبقة الأرستقراطية في عصر الوراقة الوسطوية. وهكذا فمنذ أن تبنى المولى عبد الحفيظ للمطبعة السلكية، توخيا للأهداف التي أسلفنا، “نرى أن هذه التقنية قد غزت مختلف المدن المغربية بسرعة فائقة، ولم تعد تتمركز في مدينة واحدة كما كان عليه الحال بالنسبة للمطبعة الحجرية بفاس (12)”.

فمن بين المطابع السلكية التي رأت النور في مراكش في عهد الحماية : 

مطبعة التقدم الإسلامية : ورشة متواضعة لشاب يوسفي، من طلبة جامعة ابن يوسف، إنه محمد المهدي، خرج عن عادة معظم طلبة تلك الجامعة الذين كانوا يؤثرون العمل في الخطط الدينية التي أبقاها المستعمر للجامعتين العتيقتين كالعدالة، والوكالة الشرعية، والقضاء، والتدريس والإمامة .

ويظهر أن محمد المهدي لم يغامر في هذا المشروع الحداثي من، حيث مظهره، إلا بعد أن تمرس بالطباعة في مطبعة الجنوب بمراكش، واكتسب فيها خبرة.

كل ما نعرف عن صاحب المشروع، حسب مصدرنا العلامة سيدي عباس بلحسن الدباغ، أن والده السي المهدي كان سراجا “صانع سروج الخيل” من ساكنة الحي الارستقراطي – قاعة ابن ناهض – حذق صاحبنا كتاب الله في كتاب الحي على يد الفقيه السيد ابن علال ، وبعد حفظه لمجموعة من المتون الشرعية واللغوية التحق بجامعة ابن يوسف قبل النظام، ليتحمل على شيوخها جملة من المعارف، وفي فترة من دراسته المتقدمة كان ساردا للعلامة القروي – نسبة إلى جامعة القرويين – مولاي أحمد العلمي (13) الجامع بين المعقول والمنقول، الذي كان مقدمه إلى مراكش فتحا علميا كبيرا أغنى الطلبة الفقراء عن حلم الارتحال إلى الدراسة في فاس . 

وبخصوص آلة الطباعة فقد اشتريت مستعملة من الدار البيضاء من فرنسي، وحطت الرحال في مراكش بروض الزيتون في مكان كان من ذي قبل محترف حياكة “درازة” أما حروفها العربية فقد اشتريت من لبنان. ويقال إن محمد المهدي لم يقدم على فتح تلك الورشة إلا بعد أن ظفر بشريك في المستوى، ماديا وعلميا واجتماعيا ، إنه العلامة رئيس الجامعة اليوسفية محمد بن عثمان، الذي سهل لمحمد المهدي الارتباط بعلاقات مع المخزن وكبار العلماء وغيرهم، كما يقال : إن المطبعة انتهت إلى ملك محمد المهدي استنادا إلى حكم قضائي. وعلى كل حال فقد طبعت إلى جانب الأوراق الإدارية ؛ إعلانات، وإشهارات، ودعوات مختلف المناسبات، إلى جانب طبع ونشر مطبوعات ذات صبغة مخزنية وثقافية وطنيتين.

وحينئذ فماذا نقصد بمقولة وطنية الواردة في عنوان هذه المداخلة وفي الفرش .

  • بصفة عامة يمكننا تعريفها بداهة. فنقول : “إن الوطنية شعور وسلوك وتطلع.
  • فالشعور هو اعتزاز بالذات والأجداد.
  • والسلوك هو الإيثار والتضحية .
  • والتطلع هو طلب الحرية والتقدم والرفاهية” (15).

وإن أردنا الخروج من التعريف العام، إلى تعريف يخص الوضع المغربي، لذهبنا مذهب الأستاذ العروي الذي قال : “ما أستخلصه أنا من دراسة جذور الوطنية الاجتماعية والثقافية، هو أن الوطنية المغربية مرتبطة :

أولا : بالمخزن – الدولة –

ثانيا : بشريحة اجتماعية هي طبقة العلماء الموالين للمخزن دون سواهم .

ثالثا : بقوالب تعبيرية بألفاظ ومفاهيم هي رأس مال خاص بتلك الطبقة العالمة المخزنية، لغة مكونة من روافد شتى أهمها الرافد الأندلسي” (16).

وإذا حاولنا القيام بقراءة تحليلية في اسم المشروع وهو مطبعة التقدم الإسلامية بمراكش مديرها محمد المهدي

فإن هذا الإسم  يشير إلى هوية المشروع الذي أنشئ سنة 1932 ، ووظيفته – مطبعة -، مضافة إلى التقدم المنعوت بالإسلام، ومكان المشروع مراكش – وصاحبه محمد المهدي المركب بالطريقة المشرقية بحذف ابن فهو محمد بن المهدي .

فهذه الصيغة شرعية ، ذكر فيها  الشيء المتملك ووظيفته ، ومكانه وصاحبه ولعل إضافة اسم المالك بهذه الطريقة جاءت على اثر استقلاله بالورشة. فمطبعة على زنة مفعلة تقدم تعريفها. أما المضاف –التقدم- فدلالته مضادة للتخلف، ونعته بالإسلامية فيحيل على معتقد ديني، ثم إن المطبعة في حد ذاتها فهي أيقونة التقدم والحداثة،  ومؤشر على النهضة. أو لم تحل محل حرفة الوراقة التقليدية وقضت عليها ؟ ! وها هنا أستدعي وأستحضر حملة نابليون على مصر واصطحابه للبعثة العلمية والطباعة، كما استحضر دور المطبعة في المشروع الحداثي لمحمد علي. ويأتي نعت الإسلامية في اسم المشروع بمثابة موضوع أمل وتطلع للتقدم.

فدلالة اسم المشروع إذا ربطناه بمقامه السياسي والاجتماعي والثقافي فإننا نجدها مستوحاة من الأدبيات السياسية، من التساؤل الكبير الذي هيمن على الفترة شرقا ومغربا، وهو لماذا تأخر المسلمون وتقدمهم غيرهم، وهو هم من هموم الحركة الوطنية، وقد قاربه الأمير شكيب أرسلان ( 1869-1946) في كتابه لماذا تأخر المسلمون ؟ فاسم المشروع حامل دلاليا لأبعاد وطنية سواء من حيث الشعور أو السلوك أو التطلع، فهذه القصدية الوطنية ليست بغائبة عن ذهن هذا الطالب اليوسفي صاحب المشروع وإن شئت عن ذهنه وذهن شريكه العلامة محمد بن عثمان. أما خصوصية وطنيته المغربية ومنها المخزنية فستظهر  في الأعمال والوثائق التي طبعها .

arArabic