الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

إسبانيا الليبرالية والوطنية 1875- 1975 قراءة في الإصدار الجديد ل د.عبد الرحيم برادة

صدر للباحث المغربي عبد الرحيم برادة: الأستاذ الباحث بشعبة التاريخ كلية الآداب مراكش، كتاب جديد من الحجم الكبير المتميز بعنوان: إسبانيا الليبرالية والوطنية (1875 _ 1975)،  قراءة نقدية للمشاكل التاريخية الكبرى، وقد أصدرته دار ” الفاصلة للنشر”. ويقع الكتاب في 442 صفحة. وتتألف هذه الدراسة من تقديم، ومقدمة، وثلاثة فصول، بالإضافة طبعا إلى الخاتمة.

وقد اعتمد الباحث على أزيد من 450 مرجعا ودراسة ومقال، فجاء هذا العمل موثقا بصورة تفي بالغرض، مثلما تفي بالاختيار المنهجي الذي تبناه الباحث وهو القراءة النقدية والتعليق على الأحداث بدل عمليات السرد والمناهج التقليدية المتجاوزة.

وقد تم توظيف الهوامش بشكل مكثف من أجل المزيد من الشروح والتعاليق والحواشي وغيرها، بالإضافة إلى الإحالات المرجعية لمن أراد المزيد من التوسع، كل ذلك طبعا أخذ جزءا كبيرا من العمل.

يعد هذا العمل، في حد ذاته، مغامرة علمية لأنها تجاوزت المرحلة الاسلامية في تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية التي اهتم بها البحاث العرب بالخصوص، هذه المرحلة لها ما قبلها وما بعدها، وهو الأمر الذي نعتقد أنه حفّزنا على الاهتمام بالموضوع، ثم أن تجربتنا المتواضعة في الاطلاع على كثير من حيثيات التاريخ الإسباني لها دور كبير في ذلك. ولكي تتضح الصورة حول هذه المغامرة العلمية لابد من الوقوف على كثير من الحقائق التي تميز التاريخ الإسباني عن غيره، وللحقيقة فقد تطلب منا ذلك وقتا طويلا جدا ومجهودات مضاعفة لم نكن نتوقعها. وقد اضطررنا إلى الرجوع لكثير من الدراسات والأبحاث المنهجية التي تعرف بالبحث التاريخي الإسباني في مراحل مختلفة رغم أن النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسات والأبحاث كانت متباينة بشكل كبير بسبب القناعات والاعتبارات الإيديولوجية والقومية وغيرها.

هذا الأمر انعكس على مختلف أشكال البحث التاريخي الإسباني، كما انعكس على القراءات التاريخية والتأويلات التي أعطيت لتلك الأحداث وبصفة خاصة كموضوع هذه الدراسة.

ومما عقد ذلك أكثر مساهمة البحاث الأجانب أو ما يعرفون ب HISPANISTAS في دراسة واستقصاء أحداث التاريخ الإسباني وتباين النتائج التي توصلوا إليها، وقد تقلصت كثافة أبحاث هؤلاء في التاريخ المذكور في الوقت الراهن، وأصبح الاهتمام منصبا على الأدب والفنون الإسبانية، وبعد سنة 1978 الذي ظهر فيها تقسيما ترابيا جديدا هو الأقاليم المستقلة، فإن البحث التاريخي الإسباني انصب في غالبيته على الاهتمام بالذاكرة المحلية والوطنية، وإلى ما هو تاريخي محلي بتشجيع من الجماعات الإقليمية ودور النشر. قد يرجع ذلك إلى أن النخب التقليدية والأحزاب التاريخية والجديدة، مثل حزب “بوديموس اليساري” الذي ما زال يعتقد في أسطورة: “أن البلاد في انحطاط مستمر” ويطالب بالقطيعة مع الماضي، أو حزب “فوكس اليميني” الذي انشغل بقضايا الذاكرة الوطنية ومشاكلها وكأن البلاد تحن إلى أمجادها التاريخية.

هاته النخب القديمة والجديدة تتصارع فيما بينها فيما يخص _ مثلا _ تعويض ضحايا النظام الفرانكوي وإزالة رموز الفرانكوية، بما في ذلك التماثيل والنصب التذكارية وغيرها من الشوارع والساحات العمومية وغير ذلك من أوجه السجال بين الطرفين على مختلف المنابر، لقد أثر ذلك ولازال يؤثر على مستوى البحث التاريخي، فكان لابد من الانتباه لهذه القضايا أثناء انجاز هذا العمل واعطائه اهتماما والتعامل معه بموضوعية أكثر.

لكن التركيز كان أكبر على طبيعة البحث التاريخي السابق على التاريخ الراهن الذي ذهب في عدة اتجاهات، لذلك استوجب الأمر إبداء بعض الملاحظات التي تختلف من مرجع أو دراسة إلى أخرى، وكان لابد من الانتباه إليها.

فالتاريخ الإسباني مليء بالأساطير في غياب الوثائق التاريخية، خاصة في المرحلة القديمة والوسيطة التي كنا مضطرين للرجوع إليها من أجل استقصاء الهوية الإسبانية الوطنية وتكوينها، لكن الاساطير ليست دائما سلبية، فهي قد تؤدي أدوارا تاريخية مهمة، في بعض الأحيان وفي سياق معين.

وترتبط هذه الأساطير بملاحم كبيرة وبصناعة الأبطال التاريخيين، لذلك نجد في قسم كبير من هذه المراجع، وحتى الدراسات الحديثة الكثير من الأحكام الجاهزة والقراءات والتأويلات المتعددة والمبطنة من طرف الباحثين الإسبان وغيرهم، بسبب الصدمات الكثيرة التي مر منها التاريخ الإسباني الحديث والمعاصر. فقد ذهب العصر الذهبي الإسباني بسرعة كبيرة، وانتهى بذلك الحلم الإمبراطوري في وقت كانت الدول الأخرى تؤسس إمبراطوريات، خاصة فرنسا وبريطانيا. بالإضافة إلى ما حل بإسبانيا من حروب أهلية، وطول عمر دكتاتورية فرانكو، إضافة إلى الصدمات الراهنة مثل مطالبة كاطالونيا بالانفصال. لقد توصلنا إلى أن هذه الأساطير تعتبر وسيلة للإدماج في المجموعة الكبرى، والهوية الجماعية، لأنه من الصعب تصور بناء جماعي على أسطورة سلبية، والأمثلة على ذلك كثيرة في هذا العمل. كما أن هذه الأساطير تعوزها الوثائق التاريخية التي تؤكدها. مادام أولئك الذين يرددونها اعتمدوا الروايات الكنسية في الغالب، فمثلا رواية مجئ الحواري “سانت ياقب” والذي اعتبره البعض أخا بل وتوأما للمسيح عيسى عليه السلام إلى شمال إسبانيا أسطورة مبالغ فيها، وهو الذي يعتبره الكثيرون من وراء ادخال المسيحية إلى شبه الجزيرة الإيبيرية التي كانت عاملا في إبراز هويتها الجماعية.

وينطبق الأمر على أسطورة المقاوم “بلايو” الذي يعتبره البعض أب الامة لأنه قاوم الفتح الاسلامي بزعامة الأمير الخافقي، مدشنا بذلك عملية الاسترداد التي شكلت عقلية الإنسان المسيحي طيلة ثمانية قرون، بحسب رأي البعض ليس هناك من استرداد دام ثمانية قرون. وأن المبتغى من الأسطورة هو اعادة تأسيس المملكة القوطية التي يشكك فيها بعض الباحثين أمثال الباحث الشهير ” ألفاريث خونكو” في كتابه الشهير: “إبداع إسبانيا”، وقد أقر في كتاباته التاريخية الكثيرة أن المركزية لم تعرفها إسبانيا إلا في القرن الثامن عشر بتأثير من الفكر التنويري، وأن إسبانيا كوحدة سياسية لم تظهر إلا في القرن التالي.

يدعي بعض الباحثين والكتاب الإسبان أن سبب تأخر هذه الوحدة المذكورة هو الاسلام باعتباره كان سببا في هدم الوحدة الوطنية الإسبانية، وأن التعايش بين الاسلام والمسيحية أسطورة أخرى، رغم أن الاسلام كيف التاريخ الإسباني باستثناء الناحية الدينية. وبالمقابل، هناك بعض الباحثين الإسبان يؤولون عمليات الاسترداد ضمن عوامل أساسية أخرى ساهمت في تجزئة إسبانيا إلى إقطاعات، ومدن مستقلة، وإمارات متصارعة أو متحالفة حسب الظروف.

قد أطلق على تلك الوحدات السياسية مماليك تجاوزا، لها قوانينها وجمركها وحدودها ومجالسها الخاصة. وقد تم دمجها في نظام ملكي تقليدي في القرن السابع عشر، وآخر بوربوني في القرن الثامن عشر ينشد المركزية. لكن المشاريع الفيدرالية التي أعطيت لتلك المماليك في نهاية القرن التاسع عشر والقرن التالي كانت صلاحياتها محدودة، لذلك طالبت بالانفصال.

ولا نعدم وجود بعض الباحثين والمؤرخين الموضوعين الذين قدموا الدليل تلو الآخر على أن الشعب الإسباني هو خليط من شعوب متنوعة، وهو عامل عرقل الوحدة السياسية والقومية رغم قوة العامل الديني.

ثم أن التاريخ الإسباني هو سجال بين المؤرخين المحليين والأجانب الذين أبدعوا بعض الاساطير السلبية مثل أسطورة “القراءة السوداء”، وفقد اعتبرها الباحثون الإسبان على أنها مؤامرة خارجية وعداء ضد إسبانيا العاجزة عن مسايرة التاريخ والحضارة الأروبية بسبب المشاكل البنيوية والعقلية وغيرها.

وفي هذ العمل اعتبرنا تلك الأسطورة سخافة لا تستحق الرد ومضيعة للوقت. وهناك أسطورة أخرى رددها الإسبان وغيرهم، وإن كانت قريبة إلى الواقع التاريخي، وهي أسطورة “إسبانيا السوداء” أو المحافظة في مواجهة “إسبانيا الحمراء” التي تتوق إلى التغيير، حتى انجلى الأمر عن حرب أهلية مدمرة بين الإسبانيتين ابتداء من سنة 1936، وإن كان البعض يرى أن أسبابها خارجية أكثر مما هي داخلية.

وينبري بعض الباحثين الإسبان للدفاع عن الصورة النمطية التي أعطيت للإنسان الإسباني أو ما يعرف “بهسبومانيا”. هاته الأسطورة أو الادعاء تركز على سلبيات الإنسان الإسباني وانطوائه وعشقه للآراء المحافظة. أضف إلى ذلك الأسطورة التي رددها الكل وهي فقر البلاد وتفككها، كما عبر عن ذلك أشهر فلاسفة إسبانيا في التاريخ المعاصر “أورتيغا إي كاسيت” أبرز وجوه جيل سنة 1898.

واستعرت الردود الإسبانية عندما اعتبر البحاث الأجانب في التاريخ الإسباني، أن إسبانيا رغم ما قدمته للحضارة الإنسانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر لم تعرف مفهوم “الأمة الموحدة”، والشعور الوطني، والدولة الوطنية إلا في وقت متأخر. وأن مفهوم أو مصطلح إسبانيا نفسه لم يتبلور إلا في القرن الثامن عشر رغم ظهوره في القرن الخامس عشر.

فإمبراطورية “الهابسبوغ” حسب زعمهم كانت عبارة عن ملكية عالمية، واستمرارا لمملكة قشتالة بزعامة الملوك الكاثوليك، لكن ثراءها وتعميرها المميز دون غيرها في أروبا في القرن السادس عشر لم يساعدها في ابراز هوية وطنية مندمجة، والشيء الوحيد الذي أفرزته هو هوية كاثوليكية، وعودة الإقطاع لإسبانيا.

فالهوية القشتالية سيطرت على الهويات الأخرى، بل وعلى فكرة إسبانيا نفسها، وتحولت لمصفوفة للقوميات الثمانية الحاضرة في البلاد، وأن وطن الوطنيات الأخرى أصبح في حكم المستحيل، نظريا وواقعيا.

ثم لا ننسى أن اسم قشتالة قد طغى على فكرة إسبانيا الموحدة دينيا وسياسيا عندما نسبت لنفسها دون غيرها الكشوف الجغرافية، واحتكرت ثروات العالم الجديد. هذا الأمر عبر عنه بعض البحاث بلعنة الذهب، مما حفز ثورة المماليك الأخرى ضد قشتالة مبكرا، سنة 1504 وسنة 1521.

فالملوك الكاثوليك “إيزابيلا” و”فرناندو”، قدما الشيء الكثير للوحدة الإسبانية، لكن خلفاءهما من أسرة “الهابسبوغ” أضاعوا ذلك الميراث، وركزوا على الممتلكات الأوروبية والحروب الدينية. أضف إلى ذلك النقاش المفتوح حول الدور الذي قامت به محاكم التفتيش التي حجرت على الفكر، والابداع، والحريات، وتقويض الوحدة السياسية والدينية بتصرفاتها والتركيز على نقاء الدم المسيحي. لكن هناك من يدافع عنها ويعتبر أن تاريخ محاكم التفتيش الإسبانية تعرض لتشويه مقصود دون غيرها من محاكم التفتيش الأوربية، وتثار كذلك قضية صرف الثروات الامريكية على حروب أوربا الدينية، كما تثار قضية طرد الأقليات الدينية وهي التي كانت تناط بها مختلف الأنشطة الاقتصادية، فازداد التضخم واختفت البضائع الأساسية وغيرها وارتفع الدين العمومي إلى مستويات قياسية في القرن السابع عشر.  ويعتبر بعض الباحثين أن ذلك كان سببا في فقر البلاد المزمن حتى وقت متأخر. ثم ألم يعتبر الإسبان حربهم ضد نابليون الذي قام باحتلال البلاد حربا من أجل الاستقلال؟ ولكن إسبانيا لم تحتفل قط بعيد الاستقلال. كما تجب الإشارة إلى ذلك الإجماع الضمني لدى المؤرخين الإسبان أن بلادهم تمر بمرحلة الانحطاط حتى يومنا هذا. وتعاني من مجموعة من العقد التاريخية كما أوضح ذلك الكاتب “خوان غويتسليو”، كما يشعرون بمركب النقص تجاه الآخر الأوربي بالخصوص، وأن البلاد ظلت حبيسة الماضي حتى أوقات متأخرة، ولم تواجه تحديات القرن العشرين.

ويتميز التاريخ الإسباني كذلك ببعض السجالات بين بعض جهابدة الفكر الإسباني، نقتصر على مثالين  واضحين: السجال الأول الذي دار بين “سانشيث ألبورنوث”  و”أمريكو كاسترو” أواسط القرن الماضي حول عقلية الإنسان الإسباني ومميزاتها التي بصمت بشكل خاص تاريخ إسبانيا، ومشكل التعايش بين الديانات الثلاث كأرضية لإمكانية التعايش بين القوميات الإسبانية انطلاقا من فكر ليبرالي الذي كان يعتنقه بشدة “أمريكو كاسترو”. وللتذكير، فأننا اعتمدنا عليه بشكل كبير أثناء الحديث عن مميزات الإنسان الإسباني في هذا العمل.

اما السجال الثاني فقد دار بين الباحث الكاطالاني المتميز بكتاباته التاريخية الكثيرة وهو “خورخي نادال” وغيره من الباحثين الإسبان والأجانب حول فشل الثورة الصناعية في إسبانيا، أو عدم حدوثها أصلا. ولنعرف نوعية المراجع والدراسات التي صدرت في العهد الفرانكوي الذي تميز برقابة مشددة على كل الأعمال الثقافية وكيفية التعامل معها، نقتصر على مثال واحد، نحيل عليه في الكتاب الذي أصدره في الخارج الباحث “بدرو لاين أنترالكو” الذي كان معارضا للنظام الفرانكوي بعنوان: “إسبانيا مشكلة”، وعلى التو رد عليه الفرانكوي “رفائيل كالبو سرير” بكتاب يناقض الكتاب السابق بعنوان: “إسبانيا بدون مشكل”.  قد نفهم من ذلك أن الفرانكوية استطاعت إبداع تاريخ جديد للبلاد وصناعة ثقافية تعبر عن رؤى قومية وعاطفية بشكل كبير ومقصود.

إن أهم ما يستخلص مما سبق هو اعتبار التاريخ الإسباني، كما حكم عليه البعض، يتميز بفردانيته، أو على الأقل باختلافه، لكن السؤال الأساسي هو لماذا ينظر إليه بصورة سلبية. أما الخلاصة الثانية وهي أنه كلما تعمقنا في ذلك التاريخ استدعى الأمر طرح أسئلة جديدة. والشيء الذي أثارنا هو أن الباحثين والمؤرخين الإسبان يركزون غالبا على الأحداث دون الاهتمام بالجزيئات. أضف إلى ذلك غلبة المرض الإيديولوجي على بعض الكتابات التي يظن أنها موضوعية.

إن الوقوف على أشكال البحث في تاريخ إسبانيا وغناه بالإيديولوجية، والتأويلات، والتنظيرات، واتخاذ مسارات كثيرة تعكس أشياء كثيرة أشرنا إليها وبصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع حساس جدا، كان ولا يزال يثير الكثير من المشاكل للبلاد حتى يومنا هذا، كان كل ذلك خطوة ضرورية للتعامل مع موضوع هذه الدراسة، وبصفة خاصة بعد الاقتناع باختيار الليبرالية والوطنية، واعتبارهما المحورين الرئيسيين اللذين شكلا وبصما تاريخ إسبانيا في المرحلة المقترحة.

لقد جاء ذلك عن اقتناع كبير بأن تاريخ إسبانيا المعاصر والراهن تمحور حول المفهومين السالفين. وأن القرن التاسع عشر الإسباني هو مفتاح تاريخ إسبانيا في المرحلتين المذكورتين، وفيه تبلورت كل المشاكل التي تعاني منها إسبانيا بتوجس حتى هذه الساعة. أن مشاكل الوحدة السياسية والمشكل الوطني أرق البلاد منذ وقت طويل. وقد تحكمت فيه الأهواء والمصالح والأحداث الكبرى التي مرت منها البلاد. أن حدث احتلال “نابليون” لإسبانيا سنة 1808 فجر نوعا من الشعور الوطني التلقائي بتعبئة من الكنيسة، حتى أن تعريفه بالوطنية الكاثوليكية صادق إلى حد كبير، لكن ليس كل الشعب وقف ضد الاحتلال الفرنسي، فكطالونيا وقفت موقفا حياديا، وهي الجهة أو الإقليم التي كانت تعرف تحديثا مهما وصناعة متنامية، وتنافس مدريد على الزعامة السياسية. أن ازدهار كطالونيا والمدن المتوسطية عموما من جديد في القرن التاسع عشر بعد كبوة القرن السادس عشر، يعود لفتح قناة السويس سنة 1867. لكن انعكاسات أزمة ضياع ما تبقى من الامبراطورية الإسبانية سنة 1898، كان صدمة للاقتصاد الكاطالوني خاصة، ولإسبانيا بصفة عامة. فبدأت النخب الإسبانية تتهم حكومة مدريد بالعجز والتقصير وفشل عملية التحديث، وتطالب النخب في المناطق الصناعية – كاطالونيا والباسك- بالانفصال عن إسبانيا بطرق سليمة.

لقد أصبح على هذه الدراسة أن تجيب عن بعض الأسئلة المحورية:

  1. ماهية إسبانيا وتاريخها وتكوينها والعراقيل التي صادفت الوحدة السياسية، وعرقلت الوحدة الوطنية، وجعلت التاريخ الإسباني يفتقر إلى الاستقرار، وتاريخ الوطنية هو تاريخ التخيلات، وتاريخ مشوه إلى حد ما.
  2. لماذا لم تستغل إسبانيا الفرص الكثيرة للتعبير عن وطنيتها وشعورها الحقيقي بوحدتها؟ أم أن المشكل الحقيقي يكمن في الوطنية الإسبانية ذاتها؟
  3. إسبانيا عرفت أحداثا غريبة واستثنائية لم تعرفها أوروبا، ككثرة الانقلابات العسكرية، وتغيير الأنظمة السياسية، وتغيير الدساتير، والأنظمة الديكتاتورية، وتواجد كل الإيديولوجيات على الساحة وتصارعها فيما بينها، وظهور تحالفات مثل الجبهة الشعبية والتحالف الوطني اللذين خاضا الحرب الأهلية سنة 1936.
  4. لماذا لم تتبن الحل الفيدرالي لحل مشكل الوطنيات الصغرى في مختلف الدساتير بما فيها دستور 1978؟
  5. ألم تكن مؤسسة الكنيسة هي العقبة الكبرى في وجه الوحدة الإسبانية بسبب تقسيمها إلى أسقفيات، وإشرافها على التربية والتعليم باللغات المحلية، وتحالفها مع المؤسسات الملكية والجيش وأصحاب الامتيازات على حساب الأغلبية؟
  6. ألم تكن المحافظة بكل أشكالها عائقا في وجه التحديث والإصلاحات والمفاهيم الليبرالية؟
  7. ألم يتخلى الجيش عن وظيفته الأساسية، واهتم بمصالحه الخاصة، وتدخل في السياسة بتأييد من غالبية الشعب قبل سنة 1936.
  8. لقد كان الحسم في الخلافات المذهبية والدفاع عن الامتيازات وغيرها يستدعي اللجوء إلى القوة والعنف وتجنب وسائل الحوار والتفاهم.
  9. يعتبر البعض أن إسبانيا من أقدم الأمم الأوربية، لكن التلاحم كان ينقصها بسبب الاختلافات اللغوية والثقافية وغيرها، ولم تستطع صهر تلك الخلافات في قالب وطني، وغير ذلك من التساؤلات التي حاولنا الإجابة عليها ضمنيا في هذا العمل.
  10. تعتبر الملاحظة الأخيرة منهجية، إذ يجب التعرف على تاريخ إسبانيا بعيدا كل البعد عن الأساطير والملاحم والأدب وغيره، لكن حافظنا على بعض الوقائع التاريخية لأننا لا نملك غيرها، وليس لدينا دليل علمي على دحضها. وغالبا ما تركنا الحرية للقارئ.

وبخصوص تقسيم هذا العمل فقد تضمن بالإضافة إلى التقديم والمقدمة ثلاثة فصول وخاتمة. لكن هذه الدراسة لن تستوي طبعا بعد طرح المشاكل التاريخية الكبرى وتبرير الاختيار الزمني 1875- 1975، أي بين عودتين للنظام الملكي للبلاد، وتبرير اختيار الليبرالية والوطنية كمحركين أساسين للأحداث في المقدمة، رغم أن إسبانيا عرفت كل الإيديولوجيات والتيارات الفكرية التي عرفتها الإنسانية وقتئذ، بعد القيام باستقصاء وشرح المفهوم الليبيرالي والوطني بالاعتماد على أهم المراجع والدراسات في الموضوع. لقد اقتضى ذلك شرح المفاهيم التي تستكمل الإطار المفاهيمي لهذه الدراسة، وقد تحدثنا عن مفهوم الليبرالية، والتطورات الأكاديمية التي مر منها، وعلاقاته بمفاهيم أخرى مثل مفهوم الدولة الحديثة، والديمقراطية، والحداثة، والسيادة الوطنية والسعادة الفردية والجماعية. لكن إذا كان مفهوم الليبرالية وتقسيماته لا يطرح إشكالات كثيرة، فان مفهوم الوطنية والقومية يعتبر أكثر تعقيدا، وبصفة خاصة لبلد مثل إسبانيا توجد به وطنيات كثيرة.

لقد كتبت عن القومية أو الوطنية منذ المنظرين الأوائل لها مثل “هيغل” و”هوبسباون” و”برنباورم” وغيرهم الشيء الكثير حتى أنه من الصعب الحديث عن مفهوم موحد للوطنية والقومية، وإنما على نظريات حول هاذين المتغيرين، ومكوناتهما، وامكانيات فهمهما من الناحية السياسية، والاشتقاق اللغوي من لغة إلى أخرى. وتعتبر الوطنية والقومية المركزين الأكبر للأحداث التاريخية في التاريخ الحديث والمعاصر، والحركة الوطنية هي ظاهرة لوجود مجموعة أو أمة لها كثير من الخصائص المتميزة، ويرتبط مفهوم الوطنية أو القومية بمفاهيم عديدة مثل الشعور الوطني، والأمة، والهوية القومية، والتعلق العاطفي بمجموعة معينة، والمعالم المشتركة إلى غير ذلك. لقد استعملنا في هذه الدراسة، بسبب الصلات التي تربط مفهوم الوطنية بمفهوم القومية بشكل مزدوج، رغم أننا يمكن أن نميز بينهما من الناحية النظرية، وإن كانت كلمة القومية أكثر تعبيرا على الأقليات العرقية، والصراع والتطهير العرقي، وغيره. فالقوميون في كثير من جهات العالم ينشرون الأساطير لخدمة مشروعهم السياسي والاندماجي الذي يشغل انفعالية المطالبين بالقومية.

تبقى الإشارة إلى أن الهوية الوطنية لا تمنح، وإنما تبدع وتخلق، والمشروع الوطني يجب أن يؤسس على ركائز واقعية أو قريبة من الواقع، وأن أية أزمة في النظام السياسي يترتب عنها أزمة في الوعي الوطني كما حدث في إسبانيا بعد أزمة سنة 1898، إذ انبثقت بقوة المطالب الكاطالانية والباسكية التي تدعو للانفصال، وأصبح عليهما مواجهة الوطنية الكاثوليكية المحافظة التي حظيت بدعم المؤسسات التقليدية وأنصار المحافظة بدعوى الحفاظ على وحدة البلاد.

لقد اهتم الفصل الأول الذي جاء بعنوان: “إسبانيا: التحولات والاخفاقات” بتتبع تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية وقراءته بالمنهجية المذكورة منذ المرحلة الرومانية مرورا بالمرحلة القوطية والإسلامية، ومحاولات الوحدة الدينية والسياسية بعد سنة1492، وحتى عودة الملكية الأولى سنة 1875. لقد تم التركيز والتعريف ومناقشة السمات البارزة للتاريخ الإسباني قبل السنة الأخيرة، وتبيان المراحل والدوافع والآثار وارتسامات المؤرخين والباحثين حول هذه المرحلة الطويلة نسبيا، التي اعتبرت في حكم المقدمة والأرضية التاريخية للأحداث اللاحقة. كما تم التركيز على الوعي بالإخفاقات المصاحبة لها، وبصفة خاصة، على بناء الوحدة السياسية والأسباب والعوامل التي فتت في عضدها منذ السنوات الأولى لولادتها، وأن رسخت وحدة دينية قسرية بفضل محاكم التفتيش، ومحاربة الإبداع بكل تجلياته على الرغم من أن البلاد كانت في مركز النفوذ السياسي والثقافي والديني الأوربي. لكن التشبث بأفكار العصور الوسطى، وعدم استيعاب التحولات العالمية أضاع على إسبانيا الكثير في الداخل، كما في الخارج، وبالأخص على مستوى طرح الوحدة الوطنية في شكل جديد، وإبداع الدولة القادرة على استيعاب التحولات الجديدة. لقد كان ذلك سببا في تراكم الإخفاقات المتتالية، حتى انتهى الأمر بتحولها لقوة أوربية ثانوية، تشكو الفساد، والتزمت، والبيروقراطية، والجهل، والامراض الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. يضاف لهذا تحكم المؤسسات والقوات المحافظة في مصير البلاد، وعرقلة الإصلاحات الليبرالية وغيرها لقد أصبح الحديث عن إسبانيا مرادف للتفكك والانحطاط والتقليد، وبعد سنة 1814 أصبح الحديث عن الثورات المختلفة، والحروب الأهلية، والانقلابات العسكرية، وتغيير الدساتير، وتغيير الأنظمة السياسية حتى عودة الملكية الأولى سنة 1875.

لقد تم تناول هذا الفصل الأول من خلال أربع نقط متكاملة فيما بينها وهي: الميراث التاريخي الروماني والقوطي، وهو الإرث الذي ظلت المؤسسات والقوات المحافظة تحاول إحياءه حتى ما بعد سنة 1975، لأنه قام على ميراث الديانة المسيحية الكاثوليكية التي رسمت الملامح العقلية للإنسان الإسباني، وتقديس الكنيسة ورجالاتها بشكل رهيب، ولن يكتمل التزمت المذكور إلا بتقديس المؤسسة الملكية بشكل مبالغ فيه. هذا الميراث التاريخي قولب حرب الاسترداد، وأثر وتأثر بطباع الإنسان الإسباني المتميزة بصفات خاصة، وبالطبيعة الجغرافية أو المجال، مما أثر بدوره على الوحدة السياسية والاستغلال غير المعقلن لثروات العالم الجديد، وعلى رؤية المماليك لغيرها داخل شبه الجزيرة الإيبيرية، وعلى ضياع الفرص التاريخية لقيادة أوربا إلى غير ذلك.

إن هاته المرحلة التاريخية التي يطلق عليها البعض “العصر الذهبي” اعتبرناها في هذا العمل على أنها فترة خصبة، إذ تكرست فيها المشاكل التاريخية التي عانت منها البلاد منذ قرون عديدة وحتى وقت متأخر. لقد أرجعنا ذلك إلى فشل النظام السياسي، وتعثر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وجمود الحياة الثقافية، حتى أن محاولات التحديث لإخراج البلاد من عزلتها وتأخرها كانت جدواها محدودة. لقد كان تحديث النسق السياسي مدعاة للاصطدام بالأنساق الأوربية بعد قيام الثورة الفرنسية، واضطرار نابليون لاحتلال إسبانيا سنة 1808، مما  أفرز أن الحداثة الليبرالية كانت مستحيلة في بلد يعتز بالدين، ويقدر الكنيسة، والملكية، ويكره التغيير، إلا أن النخبة المقتنعة بالأفكار الليبرالية فطنت لدلالات الحدث، وقدرته على تغيير جلد البلاد وصورتها، وإخراجها من النفق شبه المسدود التي تتعثر فيه، اتخذت تلك النخبة المبادرة، وصاغت دستورا ليبراليا في قادس سنة 1812، أصبح مرجعا دستوريا لكل الدساتير الكثيرة التي عرفتها البلاد.

 لكن المقاومة الشعبية بتأطير من الكنيسة، ومطالبها بعودة الملكية كانت وراء انبثاق وطنية كاثوليكية محافظة، أو شعور وطني غاب عن البلاد لمدة طويلة. وقد أصبح في حكم المنتظر الصدام المتوقع بين الفكر الليبرالي والفكر الوطني المحافظ، كما أثبتت الأحداث ذلك، في انتظار حصول توافق بين الفكرين. لم يكن الأمر سلميا قط، إن عودة الملكية سنة 1814 في شخص “فرناندو السابع” كان نذيرا بعودة الحكم المطلق، وإقبار الفكر الليبرالي بدعم خارجي جسدته مقررات مؤتمر فيينا سنة 1815. لكن تصاعد المد الليبرالي في شخص الأحزاب الليبرالية المعتدلة والراديكالية، وتطور الفكر الجمهوري أدخل البلاد في متاهات كثيرة عنوانها انقلابات ضباط الجيش الليبرالي الذين فرضوا وصاية على العرش، ووضعوا دساتير ليبرالية، وخاضوا حروبا أهلية دموية ثلاث قادها فرع ملكي بغية تأسيس ملكية مسيحية ووطنية محافظة. لكن انهزامات هذا الفرع، وغزو الشعب بمختلف التيارات الإيديولوجية، وقيامه بثورة كبرى سنة 1868 ضد تسلط الملكية والكنيسة والمحافظة وانصارها، مهد الطريق لحكم الجمهورية الأولى سنة 1873. فكانت جمهورية ديمقراطية فيدرالية برئاسة بعض كبار ضباط الجيش. وقد عبرت بشكل حقيقي على تجذر الليبرالية، والافصاح عن مكنونات التطلعات الوطنية لبعض الأقاليم في الأطراف، بل التعامل مع بعض الكانتونات في جنوب البلاد. لقد انتهت هاته المرحلة الدقيقة والمليئة بالدلالات بانقلاب عسكري جديد أعاد للبلاد النظام الملكي سنة 1875 لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ البلاد حاولنا في الفصل الثاني الذي جاء بعنوان: “نظام إعادة الملكية والبناء الليبرالي والوطني ” الإقرار بتخوف الجيش على الوحدة الوطنية للبلاد، إذ ابتداء من هذه المرحلة، وحتى سنة 1975 سيصبح ذلك هاجسه الأول. لقد ترتب عن ذلك أن “برتوريته” أصبحت في تزايد، ودوره التحكيمي، وتحالفه مع المؤسسات القائمة وذوي الامتيازات، ودفاعه عن مصالحه الخاصة عنوان المرحلة. لكن الجيش مع ذلك احتفظ بتقديره للفكر الليبرالي كما كان الامر بعد سنة 1836. لذلك جاءت هندسة نظام إعادة الملكية مستوحاة من النظام الإنجليزي في الحكم والقائم على الملكية البرلمانية والتناوب على الحكم بين حزبين هما: الحزب الليبرالي والحزب المحافظ، وإقرار الملك الجديد بأنه ليبرالي كاثوليكي.

 لكن فساد النظام السياسي، والانتخابي، والأزمات الخانقة التي أصبحت تعيشها المؤسسات القائمة، بالإضافة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتطور الذي عرفه المشكل القومي، وفقدان آخر ما تبقى من الإمبراطورية الاستعمارية، وتحول الجيش إلى جيش عاطل ومسؤول عن ذلك، وفي الوقت ذاته، يبحث عن مصالحه، وعن استعمار جديد، كل ذلك غطى على المحاولات الليبرالية في اصلاح أوضاع إسبانيا وتحديثها وتجهيزها ببنيات ومؤسسات إسوة بباقي دول شمال أوربا. ثم إن الإيديولوجية الليبرالية تبين للجميع أنها تخدم مصالح معينة، كما لم تعد لوحدها في الساحة. إذ تم غزو البلاد بكل التيارات الفكرية اليسارية ثم اليمينية فيما بعد. كما انضاف إلى المشاكل المذكورة المشكل الاستعماري المغربي وإلحاق هزائم نكراء بالجيش الإسباني. لقد طرحت بحدة مسألة التجنيد الذي أعفى المحظوظون الذين كان بإمكانهم الدفع مقابل الإعفاء، وهي نقطة أساسية أصابت في الصميم الشعور القومي مع تفاوته من شخص لآخر. وطرح أقطاب جيل سنة 1898 أي بعد النكسة التي أصابت الدولة الليبرالية، والنكسة الأمبريالية عدة أفكار وحلول ودعوات تطالب بالتجديد على النمط الأوربي، وقد كانت دعواتهم تستلهم من الفكر الليبرالي والفكر الوطني الشيء الكثير.

على كل، فإن انتكاسة الفكر السياسي الليبرالي، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تسبب فيها، شحذ كل أشكال المعارضة ضد النظام. وقد تطورت الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، واشرأبت الأعناق للجيش بسبب دوره التحكيمي، فجاء الحل في شكل دكتاتورية جديدة سنة 1923، استطاعت الحكم، لكنها فشلت في اصلاح الأوضاع. وإن سقوطها كان منتظرا بسبب التشبع بالفكر الليبرالي، لكن تلك الدكتاتورية جرت معها سقوط الملكية التي اتهمت بالتواطؤ معها. لقد عاد النظام الجمهوري للحكم للمرة الثانية سنة 1931 وسط حبور شعبي كبير، إذ كان ينتظر منها الشيء الكثير، وحل المشاكل التي استعصت على الحل، وعلى رأس هذه المطالب الشعبية النظر في علاقة الكنيسة بالنظام السياسي، وإصلاح الجيش، وإصلاح القطاعات الأخرى التي تئن تحت وطأتها غالبية الشعب، وتلبية المطالب القومية لكطالونيا والباسك بالخصوص. لكن الجهر بالإصلاح، وعدم إتمامه، بسبب ظروف قهرية، ومؤامرات اليمين، وتحالفاته المعلنة مع الجيش والكنيسة ضد النظام الجمهوري نفسه، وبصفة خاصة بعد تهديد وحدة البلاد الوطنية. وعلى الرغم من أن الحسم كان في المرة الأولى كان انتخابيا بعد فوز اليمين بانتخابات سنة 1933. إلا أن التكتل اليميني كان يستعد للقيام بانقلاب عسكري عادي، ولم يعتقد قط أن ذلك الانقلاب سيتحول إلى حرب أهلية دموية، تدخلت فيها الأطراف الخارجية بكل الوسائل المتاحة. لقد كانت حربا أيديولوجية ودينية وللسيطرة على الحكم واقصاء الفكر الآخر من الجذور.

  إن انتصار الفكر الدكتاتوري الفرانكوي ذي النزعة الوطنية المحافظة – كما تمت قراءة ذلك في الفصل الثالث والأخير- كان انتصارا للفكر الوطني المحافظ. لكن المعارضة الليبرالية وغيرها في الخارج، والموقف الدولي من الكتلة الغربية الليبرالية، والكتلة الشرقية الاشتراكية، أقض مضاجع النظام الذي تعرض لضغوط كبيرة. كما أن المعارضة الجامعية، والعمالية، والسياسية، وغيرها بدأت ترفع رأسها في حيطة. لكنها تحدت أجهزة النظام القمعية، لقد أجبر نظام فرانكو في العقدين الأخيرين من حكم النظام الديكتاتوري، على الانفتاح التدريجي على الفكر الليبرالي بعيد الانفتاح الاقتصادي. ومما أعطى دفعة للمعارضة الليبرالية وغيرها، فتبرؤ الكنيسة من النظام، ودفاعها عن الشعب، وتخاذل أنصار الملكية في نصرته، بعد أن خذلهم لمدة طويلة، ادعى فيها فرانكو عودة الملكية للبلاد. لكن ظهور منظمات قومية مسلحة، وضرب أركان النظام ومصالحه، غير شروط اللعبة، وعزز من فرص المعارضة السياسية، وعلى راسها المعارضة الليبرالية، والانفتاح الاقتصادي والسياحي على الخارج، وظهور وسائل إعلامية جديدة، واعمال فنية ابداعية تشوه صورة النظام رغم الرقابة البوليسية. لكن فرانكو وانصاره تمسكوا بالسلطة رغم مرضه وعجزه، وكان كل طرف يتهيأ لما بعد وفاته. وبسبب الإنهاك الذي أصاب الجميع، اقتدت الملكية بالكنيسة، وبالرمزية التي أصبحت تتمتع بها، وأصبح الجيش يركز على وظيفته الدفاعية عن حوزة الوطن، فعادت الليبرالية لتحتل موقعها الطبيعي كفلسفة حكم وممارسات مختلفة. لكن الحل الوطني تعثر من جديد في اختيار نظام الأقاليم المستقلة في دستور سنة1978. لقد أجل الحل المناسب وعلى رأسها الحل الفيدرالي، مما يطرح على البلاد الكثير من التحديات والمشاكل الانفصالية وغيرها، وأصبح على المحكمة الدستورية العليا في العاصمة مدريد حل المشكل القومي والانفصالي بالخصوص.

 

arArabic