الصفحة الرئيسيةملفات خاصةمراكش الذاكرة

أكثر من معالمها الحضارية .. الحمير والفنادق بمراكش

أرشيف المراكشية (2012) : عبد الصمد الگباص

كانت كثيرة إلى الحد الذي أضحت فيه ملمحا أساسيا لمراكش. كثيرة أكثر حتى من صلحائها وأوليائها ومعالمها التاريخية والحضارية. وربما قد صارت أكثر من متسوليها وعاهراتها. فهي تخترق شوارعها الكبيرة وأزقتها الضيقة. تتجمهر في ساحاتها بالعشرات. تنتشر في دروبها وأسواقها بوفرة لا نظير لها. تخالط السيارات والشاحنات والحافلات والدراجات في الطرقات. تغطي بحضورها مفارقات مدينة تستقطب بشراهة في نفس الوقت، أثرى الأثرياء وأفقر الفقراء. تمنح شكلا لأزمتها.وترسم علامة واضحة للترييف الذي يصاحب تطورها واتساعها.

إنها الدواب التي تجر آلاف العربات الصغيرة لنقل الأتربة من أوراش البناء أو حمل الأمتعة أو نقل الخضر.والتي يتزايد عددها يوما بعد يوم بمراكش بالمئات.

باركينغ للحمير فقط:

بسويقة باب الخميس، حيث كل شيء يقنعنا بأننا لسنا بحي شعبي داخل السور، وإنما بمنطقة صناعية تكتظ فيها معامل النجارة بضجيج آلاتها وأوراش الحدادة التي تحتل الطريق العام ومحلات بيع لوازم البناء من إسمنت وحديد ورمل وآجور، تنشط حركة العشرات من العربات الصغيرة المجرورة بالحمير بشكل لافت ذاهبة الى نفس الاتجاه أو آتية منه.

ليس في الأمر سر كبير أو لغز محير ماعدا تواجد المرأب الذي يأوي هذه الدواب بالليل وتحط به في النهار في حال عطالتها عن العمل.

المكان فَنْدَق قديم يوجد في مدخل الطريق المؤدي إلى الزاوية العباسية من جهة باب الخميس.

قبل الوصول إليه بأمتار قليلة ينتصب قوس عتيق يُعَيَّن مدخل الحي عُلقت عليه يافطات صغيرة تحمل أسماء بعض الرياض التي امتلكها الأجانب وحوَّلوها إلى إقامات باذخة لأثرياء القارة العجوز.على جوانب المدخل ترسو محلات مختلفة الأغراض: ميكانيكي الدراجات، متجر للعقاقير وآخر للوازم الدخول المدرسي، بَقَّال.

.الفوضى تَعُم كل شيء هنا، مزج سوريالي بين مكونات متناقضة المضامين: مساكن بسيطة تطلب الهدوء ومعامل وأوراش صاخبة، رياض متخمة بجمالها وترفها ومداشر غارقة في بؤسها.

باركينغ الحمير هكذا سماه أحد الظرفاء.البناية في شكلها الخارجي من طراز معماري تقليدي.البوابة كبيرة جدا تليق بفخامة قصر وليس بملجأ للحمير.وفي الداخل ينفتح فناء شاسع بين الأسوار المرتفعة مُعَرَّى من كل ما يحجب السماء والشمس.مساحته تتسع لما يقارب سبعمائة متر مربع تحيطها بعض الحجرات.

الفضاء على اتساعه مملوء عن آخره بحشد غفير من هذه الدواب الخدومة جدا، لا ترى فيه على امتداد البصر غير المئات من الآذان الطويلة المنتصبة إلى الأعلى.

والرؤوس السوداء والقوائم المتنطعة الجموحة غير المقيَّدة التي تتحرك في كل الاتجاهات حسب أهوائها، وبينها ترسو العشرات من العربات الحديدية الصغيرة التي تستعمل في نقل مخلفات أوراش البناء من أتربة.

أما أرضية المحل فمكسوة ببقايا التبن وروث البهائم. بكوخ صغير في عمق الفندق يسكن العربي الذي يتكفل بحراسته واستخلاص واجب الإقامة من أرباب الحمير والعربات، عمره يزيد عن سبعين سنة.ملامح وجهه مثقلة بعلامات البؤس والهموم، استقبلنا مبتسما: هانتوما تتشوفو تنقضي نهاري وليلي بين الحمير (يضحك).أنا أصلي من سيدي بوعثمان (تابع لإقليم الرحامنة ) وكنت أشتغل في أوراش البناء، لكن لم تعد لي القوة لمزاولة هذا العمل الشاق.فجئت إلى هنا لأخلف أخي في حراسة الفندق منذ خمس سنوات.

يتجول العربي قليلا بين الدواب ثم يعود ليستريح عند مدخل الفندق من هناك يمكنه مراقبة كل من يلج المكان أو يغادره.” فنادق الحمير كثيرة في مراكش.كاينة في باب الخميس و الفخارة وباب الدباغ و عين إيطي.الكرارس غاديين أوتيكثارو نهار بعد نهار بالمدينة.”

الظاهرة بالنسبة للعربي ليست بسيطة ولا عادية.بل هي علامة عريضة لمأساة اجتماعية لفئة لم تجد موقعها في دورة الإنتاج.لم تفد الأوراش الضخمة للسياحة التي تحفل بها المدينة في استيعابهم ولا ملايير الدراهم من الاستمارات التي تستقطبها مراكش في انقاذهم من التهميش.وخاصة أولئك الذين طردهم الجفاف وشح المياه من أراضيهم بالبوادي والقرى.

يقول العربي:” في السنتين الأخيرتين تقاطر الآلاف من أرباب العائلات القروية على مراكش.فلم يجدوا وسيلة أسهل لضمان رزقهم أكثر من اقتناء حمار وكروسة (عربة) والعمل بها كطالب معاشو.لذلك اكتظت في الآونة الأخيرة المدينة بهذه الدواب واختنقت طرقاتها بها وامتلأت ساحاتها.برا (أي البادية) ما بقي فيه ما يدار.”

أرباب هذه الدواب ينحدرون من مناطق مختلفة كزمران والرحامنة والسراغنة والشاوية ودكالة إضافة إلى ضواحي المدينة.

سمعة مراكش كورش بناء مفتوح ساهم بقوة في استدراجهم.وتك هي حالة محمد الشاوي الذي صادفناه بالفندق أثناء زيارتنا له.ترسم محياه معالم محنة حقيقية وتاريخ من البؤس والحرمان.

التجاعيد تحفر عميقا في جبهته والشيب يغزو شعر رأسه. وأشعة الشمس الحارة جففت بقساوة بشرة وجهه. ولا شيء يكسو جسمه النحيف غير ملابس رثة تنطق بكل علامات الفقر المدقع. كل شيء يقنع فيه بأن عمره قد تجاوز الأربعين على الأقل إلى أن صدمنا بحقيقة أن سنه لا يتعدى منتصف العشرينات. قدم محمد من منطقة الشاوية إلى مراكش منذ سنتين.

لم تعد الحياة تطاق بدواره القريب من سطات وضاقت سبل العيش به ففضل الهجرة مخلفا وراءه أسرة تتكون من زوجة شابة وطفلتين أكبرهما في السابعة من عمرها تتابع دراستها في ا لمستوى الإبتدائي والصغرى لا يتجاوز عمرها الثالثة. اختار مراكش بفعل الرواج المنسوب إليها في السنوات الأخيرة وحركة البناء التي تتزايد وتيرتها بها. فلم يكن أمامه سوى اقتناء حمار وعربة حديدية صغيرة تصلح لنقل الأتربة.

تواجد محمد بالفندق في الصباح لم يكن عاديا لأن الوقت وقت عمل ومن المفروض أن يكون بالخارج رفقة حماره يسعى لرزقه يجيب عن ملاحظاتنا قائلا: خرجت الصباح وعييت ما ندور أو ما جاب الله والو، الكرارس كثروا في مراكش حيث ما كاين ما يدار.

الامر واضح جدا حسب تفسير محمد المستسلم ليأسه، فالحمير المتواجدة في الصباح بالفندق تعني شيئين لا ثالث لهما، فإما أن اصحابها غائبون أي في زيارة لأهلهم بمناطق سكناهم البعيدة في الغالب وإما انهم فشلوا في ايجاد عمل فعادوا بجيوب فارغة ونفوس محملة بالخيبة ليودعوا حميرهم بالفندق تفاديا لمزيد من المصاريف.

يعيش محمد وفق نظام بالغ التقشف لأن دخله لا يسمح له بأحسن من ذلك فهو يبيت قرب حماره بالفندق مفترشا الارض، ويلتزم حمية غذائية بالغة القسوة، ليس رغبة في صحة جيدة وجسم قوي وخال من الدسوم والكوليسترول وإنما لضرورة قاهرة تفرض تقليص مصاريف مدخول قليل جدا وغير مضمون وعليه أن يقتسمه وأسرته المتواجدة بالشاوية لذلك فالحليب مثلا اسم محذوف من قاموس تداوله اليومي ويذكره بطعم مادة لم يتذوقها منذ زمن طويل يسمع عنها ولا يراها، وجبته الروتينية التي تتكرر ثلاث مرات في اليوم هي كأس شاي وخبز أسود وعندما ترتقي إلى أقصى درجات البذخ والترف يصحبها صحن صغير من البيصارة أو العدس أو اللوبيا (أي الفصوليا اليابسة)، المهم والاساسي هو ألا يتجاوز عشرين درهما كمصروف يومي.

مدار عمل محمد الشاوي هو المدينة العتيقة يجوبها بحثا عن ورش بناء بدرب ضيق لا تستطيع الشاحنات الكبيرة ولوجه، يقول إن العربات الحديدية الصغيرة المجرورة بالحمير تعمل بمراكش العتيقة وسيدي يوسف بن علي أما الاحياء الجديدة كالداوديات والمسيرات وصوكوما والمحاميد فالشاحنات تتكفل بنقل أتربتها وحتى بداخل المدينة القديمة ظهر منافس جديدة ينضاف إلى كثرة العربات هي الدراجات الصينية التي أضحت اكثر فعالية وسرعة في نقل مخلفات البناء والهدم مستغلة صغر حجمها لتتسلل إلى أعماق الدروب والازقة.

في نهاية الاسبوع يكون على محمد السفر إلى الشاوية ليعود أسرته المستفرة هناك ويمدها بحصيلة الاسبوع مما ادخره من مال ليكفل مصاريف تمدرس كبرى بناته وعيش الطفلة الثانية والزوجة وكل ذلك مما توفره له وسائل انتاجه: الحمار والعربة.

المداخيل غير منتظمة حسب ما يقول محمد في أحسن الاحوال قد تصل إلى 80 درهما في اليوم تخصم منها تكاليف كلأ الحمار والاتاوات التي تقدم لبعض المراقبين مقابل السماح له بمزاولة عمله بدون مضايقة، فهو ينقل كريريسة من التراب مقابل سعر يتراوح مابين 25 و30 درهما حسب موقع الحي وبعده عن مطرح الاتربة بواد ايسيل، وعن كل كريريسة يقدم عشرة دراهم للديبو (مكان طرح الاتربة) مقابل السماح له بوضع حمولته ليتبقى له من المدخول 15 درهما فقط للكريسة الواحدة تقتطع منها نفقات اقامة الحمار بالفندق واطعامه، وحسب تصريح محمد الشاوي فأقصى انجاز له باليوم هو ست كرارس (اي ست حمولات) يحدث ذلك نادرا.

وقد يأتي يوم لا ينقل فيه ولو حمولة واحدة وفي النهاية يتراوح معدل مدخوله اليومي مابين 40 و 60 درهما، عليه ان يكفي حاجيات عيشه منها ويوفر ما يعول به اسرته.مع اقتطاع واجبات الحمار.

“مكرفسين بزاف مساكن ـ يعلق العربي حارس الفندق ـ بحال محمد الشاوي كثار.تيظلوا يجريو بالحمير او الكرارس باش يديو لعائلاتهم باش ايعيشو.ماعندهم في مراكش حتى فين ينعسو.”

عين لنا محمد مكان مبيته بالفندق.ليس فيه ما يليق بكرامة انسان. وابسط وصف يقدم له سيكون جارحا للاحساس الانساني.ارضية حرثتها قوائم الحمير وفرشها روثهم . مكان للنوم من طراز استثنائي محكوم بالجوار الصعب للبهائم. ترى بماذا يمكنه ان يحلم هناك؟! سألنا محمد ان كان قد استفاد من احد برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي رصدت لها بمراكش أموال مهمة.لم يفهم شيئا مما قلناه له لانه لم يسبق له ان سمع شيئا عن هذه المبادرة.واكتفى بالتأكيد بأن لا احد سأل فيه هو وزملاءه سواء كان برنامجا رسميا او مدنيا للتنمية. إنهم يعيشون فعلا التجربة الحقيقية للهامش.

في عمق الفندق من الجهة اليسرى ينفتح باب ضيق يحيل مباشرة على فضاء معتم يطل منه وجه رجل مسن لكن بجسد اكثر حيوية.يبتسم وهو يصرح بسنه ” انا فايت السبعين.وكاين هنا منذ سنة 1957″ نطل على مكان تواجده فنفاجأ برؤوس البقر التي تنعم بكلأها.

ينحدر المحجوب من حي اسول بمراكش العتيقة.دأب على تربية الماشية منذ شبابه.ويوجد بالفندق منذ اربعين سنة. عايش تحولاته عن قرب. ينتج الحليب.

تحدث بنوستالجية مؤثرة عن الايام التي مضت عن الجنانات المجاورة التي كان يقتني منها الكلأ لبقره، والتي اختفت اليوم بعدما التهمتها التجزئات الجديدة وتجمعات السكن العشوائي التي تستفحل يوما بعد يوم.

قال ان هذا الفندق قديم جدا، وانه كان هكذا دائما مأوى للدواب. وقال ان الفندق المجاور له كان اصطبلا لتربية الخنازير في ملك معمرة اجنبية. حدث هذا في زمن مضى وانقضى.

اما العربي حارس المكان وقابضه فيؤكد وان عمر الفندق يزيد عن 75 سنة. ظل فيها محافظا على وظيفته.

الفارق الوحيد هو ان عدد الحمير وعرباتها تتكاثر بموازاة موجات الجفاف وازمات البادية. فهو يقدر عدد الحمير التي تستخدم في جر عربات نقل الاتربة بمراكش العتيقة وسيدي يوسف بن علي بسبعة آ لاف حمار ينشط بقوة في دروب وازقة وشوارع المدينة ويتحرك في مسالكها.

اقتصاد

يؤدي صاحب العربة ثلاثة دراهم وخمسين سنتيما عن كل ليلة يقضيها حماره بالفندق.تنضاف الى واجب الإقامة مصاريف الكلأ حيث تكلف تغذية الحمار في اليوم الواحد 17 درهما تهم التبن والفصة والشعير.ليبلغ اجمالي مصاريف الدابة عشرين درهما وخمسين سنتيما.

يساوي المصروف اليومي للحمار مصروف صاحبه كما هو الأمر بالنسبة لحالة محمد الشاوي الذي لا يستطيع تجاوز عشرين درهما في اليوم تغطي تكاليف تغذيته ومبيته وكل شيء في عالم حاجياته الذي يتقلص الى اقصى الحدود. اما عدد الحمير التي تقيم بشكل دائم في هذا الفندق فيبلغ عددها 76 حمارا.

طالْبْ مْْعَاشُو

انطلقنا بعيدا عن الفندق خارج السور، في طريقنا أينما ولينا وجوهنا الا وهناك حمير تجر عربات.منها ماهو متحرك ومنها من يقف راسيا في ساحة او قرب متجر أو تحت ظل حائط ينتظر دوره في الحركة.

قبالة باب الدباغ كان علينا ان نقطع واد إيسيل وان نتوغل وسط تجمع حاشد من السكن العشوائي والمساحات القاحلة التي قطعت أشجارها وجف نبعها و اقترب مصير اقتطاعها تجزئات باهظة الثمن.الى أن وصلنا المكان المقصود. من بعيد يبدو كواحة في قلب صحراء بفعل الاشجار الخضراء العالية التي ترتفع منها. لكن عندما اقتربنا وجدناه حفرة شاسعة.تمتد لمئات الامتار.الحمير بعرباتها تتدحرج نحوها او تغادرها متسلقة المنحدر المرصوف بالاتربة والحجارة.

الشكل العام للمكان يبدو هجينا من أعلى: خليط من أشكال لمخابىء مسقوفة بنفايات الكرتون الرث والبلاستيك المتلاشي، بعضها تطل منه رؤوس الدواب (الحمير طبعا) والبعض الآخر تتقافز منه نظرات أطفال وشيوخ ونساء.

يصعب ان تصدق ان في مراكش نفسها تلتئم الالفة بين قصور شارع محمد السادس وفيلات ليفرناج والنخيل، وهذه الكيانات الهجينة التي يتجاور فيها الإنسان والحيوان تحت سقوف من أزبال ونفايات!! هناك استقبلنا السي محمد الذي يقطن بعين المكان، عمره 70 سنة، قال أنه كان يشتغل دباغا.ولما بلغ عتيا ولم يعد له من السواعد ما يكفيه للقيام بهذه المهنة الشاقة ارتكن الى هذه الحفرة التي يستغل نصفها في كراء المبيت لحمير العربات.

“أبنائي لم يرثوا عني حرفتي.الدباغة لم تستهوهم.وفضلوا العمل في قطاع البزارات.فجئت الى هنا أربي الخرفان وأقوم بكراء المبيت للحمير. أتقاسم هذه الحفرة مع شخص آخر الذي يمارس نفس النشاط.”

المكان معروف بالدباغ الحفرة. هذا ما أكده السي محمد. سألناه عن عدد الحمير التي تبيت عنده. فتردد كثيرا في التصريح بالعدد ليقول في النهاية ثمانية.لكن أحد الاطفال قاطعه ليصحح له الرقم قائلا: لا، خمسين بهيمة.فنهره الشيخ آمرا إياه بالتزام الصمت، ليضيع الرقم الحقيقي بين الاثنين.

الى جانب حماره وقف حميد منصتا لحديثنا مع السي محمد الدباغ، قال ان في القسم الثاني من الحفرة يقيم مائة حمار، وكريسة.

سألناه عن سبب تواجده بالمكان.

فأجاب: أنا عندي كريريسة ديال الخشب.في الصباح الباكر أذهب بها الى المارشي (سوق الجملة) أقتني الخضرة وأتجول بها بين الاحياء أعيد فيها البيع.

قاطعناه متسائلين عن سر بقائه بالحفرة رغم ان الوقت صباحا وهو موعد العمل.

فرد: ذهبت هذا الصباح الى المارشي كعادتي كل يوم. فوجدت أسعار الخضر ملتهبة، الغلاء يمس كل شيء. فعدت لأربط الحمار وأضع الكريسة، لأنني لا أستطيع ان أغامر فأقتني الخضر بأثمنة لن يشتريها مني أحد، كما أن إمكاناتي المادية لاتقوى على مواجهة هذا الغلاء. في العادي من الايام ينتزع حميد من عمله هذا كبائع متجول بالخضر مدخولا يتراوح ما بين 60 و80 درهما .

تحدث عن لوازم الجولة التي تمثل نفقات جانبية لايستهان بها كدهن السير الذي يكلف عشرة دراهم تدفع لكل مراقب قد يستوقفه. وإلا فمصير عربته ومحتوياته سيكون هو المصادرة. ومصاريف الحمار اليومية التي تقدم بعشرين درهما. وواجبات مبيته. في الحفرة يؤدى عن كل حمار وعربته الصغيرة ثلاثة دراهم وعن كل بغل وعربته الكبيرة (الكارو) خمسة دراهم لليلة الواحدة.

يبلغ حميد من العمر 29 سنة وهوقادم من الرحامنة.يعمل في هذا المجال منذ ما يزيد عن خمس سنوات. لم يتزوج لأن ظروفه المادية لا تسمح له بمثل هذه المغامرة .يعيل والديه، ويتحمل مسؤولية إسكانهما. “راهن ليهوم في سيدي يوسف بن علي. ماكاين ما يدار بمراكش غير البهيمة والكريسة.آش غادي ندير بحياتي هنا الى ما صاكتش الحمار والكريسة”

في الحفرة تبدو العشرات من الوجوه محملة بأحلام مدفونة في نفوس محطمة.النظرات منكسرة تتصيد أفقا يخبو أمامها باستمرار.حياتهم متلفة بين حوافر الدواب التي تتقاسم معهم ذات المكان وذات الزمان وتدس رؤوسها تحت نفس السقوف: سقوف من أزبال وأوحال ونفايات. كلما كلمنا أحدهم إلا ويرد بصوت متباطئ كما لو كان منتزعا من أعماق بئر مسكون بمياه آسنة.من فرط إحباطهم لم يعد للقول أي جدوى لديهم.

صعدنا من الحفرة مخلفين وراءنا حياة منسية بين روث البهائم والغبار الجاف والبلاستيك اليابس لأناس يتحملون ثقل مأساتهم اليومية في غفلة من مجتمع بكامله.

هناك من عمق الحفرة.كان أطفال يتقافزون ببراءة.العربات المجرورة بالحمير تجيء وتروح. والرافعات الضخمة غير بعيدة منها منشغلة في بناء صروح القصور الفخمة لأثرياء المدينة وضيوفها المترفين. والشمس تغيب لتشرق على يوم يطول بمرارة محنة لا أحد منهم يعرف متى تنتهي.

arArabic