الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

ضرورة المصاحبة النقدية للمعرفة الصوفية ح9 .. الشيخ محمد العربي الدرقاوي المدغري مثالا

د. مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي – مراكش

الحلقة التاسعة : صفحة مضيئة من التصوف المغربي العملي المتصل بأحداث وقته : الشيخ محمد العربي الدرقاوي المدغري مثالا

ملاحظة أولية : يجب الانتباه إليها ونحن لا زلنا في بداية المقال ، وتتمثل في التفريق بين أبي عبد الله محمد العربي الدرقاوي ( 1151\ 1239هج – 1737\1823م ) صاحب الرسائل المتعلقة بالأدب والسلوك وبين الشيخ محمد العربي الدرقاوي المدغري الذي سيدور عليه مقالنا الجديد ( 1216\1309 هج – 1801\1892م ) فكما نرى هناك تشابه بين الإسمين المذكورين مع اختلاف الزمن والمكان ، فالدرقاوي صاحب الرسائل هو الأقدم والأسبق في الوجود كما يظهر من مقارنة تاريخ الميلاد والوفاة الخاص بكل منهما .

نص المقال :

ربما سيجد القارئ في هذا المقال شيئا من الجواب المنتظر عن الأسئلة التي ختمنا بها الحلقة السادسة المخصصة لكتاب الشيخ زروق ( عُدَّةُ المريد الصادق……) وسيجد كذلك إنصافا لتصوف المغاربة الإيجابي والمفيد ، ولتلك المعرفة الصوفية المطلوبة بصفة عامة ، وأن الخلل إن وُجد في سياق ، أو زمن صوفي معين لا يجب أن يُحسب على تلك المعرفة في حقيقتها ، وفي كل مضامينها وأوقاتها ، وإنما هو ناتج عن جهل الممارسين ، وتَحَكُّم التقليد السلبي ، والضَّعف والدَّجَل ، وأوهام النفوس المريضة فيها كما سنقف على ذلك في الحلقات المقبلة إن شاء الله حين سنتعرض لبعض النماذج السلبية التي ارتهنت لآفات الكرامات وخرق العوائد ، وطلب الولاية بطرق غير سليمة ، أما هذه الحلقة فستستقل بالحديث عن قطب متأخر من أقطاب التصوف المغربي العملي في أوقات الشدة والحرج ، المسمى بالشيخ محمد العربي الدرقاوي المدغري رحمه الله ( ت : 1309 هج \1892م ) وسيكون كلامي عليه منقسما على ثلاثة فروع : الفرع الأول يُعرِّف بمشروعه العلمي الصوفي ، والفرع الثاني يتعرض لبعض مضامين منشوره في الجهاد ، والفرع الثالث سيهتم بموضوع الجهاد في فكره .

الفرع الأول : المشروع العلمي للدرقاوي المدغري : عصر الدرقاوي المدغري عموما هو عصر ركود وانغلاق بالنسبة للتصوف المغربي حتى صارت كما يقول الناصري : ( كل طائفة تجتمع في أوقات معلومة ، في مكان مخصوص ، أو غيره على بدعتهم التي يسمونها الحضرة ، ما شئت من طست ، وطار ، وطبل ، ومزمار ، وغناء ، ورقص ، وخبط ، وفحص ، وربما أضافوا إلى ذلك نارا ، أو غيرها على سبيل الكرامة بزعمهم – الاستقصا ج 1\143 ) .

في مثل هذه الأوضاع عاش الشيخ الدرقاوي المدغري ، وتملكته رغبة في إصلاح الأوضاع ، فانطلق في مشروعه العلمي العملي ، متفاعلا مع أحداث زمنه الجِسام ، راغبا في إحداث نقلة وتخليص التصوف من أدران العصر وجهله ، فبدأ بتأسيس زاوية للطريقة الدرقاوية بمدغرة ، وأعطاه الله القبول ، وبدأ الناس يفدون عليه رجاء إحياء صحيح مضامين التصوف ، وتكوين جبهة في وجه الفساد ، وأطماع الأروبيين في المغرب ، وقد تميزت شخصيته بمزايا علمية ، وسمات القيادة المتعددة سأذكر منها ما يلي :

1 – ربط بين تجربته الصوفية والمقاومة للفساد والأطماع المحذقة بالمغرب ، وربى مريديه على رفض التدخل الأجنبي في المغرب .

2 – أحيا معالم المشيخة بمفهومها الصوفي الصحيح ، وبتواضع منه ، وعدم رغبته في الرياسة ، ودفعه ما أصابها من ركود وانحراف إلى ولوج طرق الإحياء والإصلاح .

3 – حرصه ( على الجمع بين الفقه والتصوف من خلال الاستدلال بالقرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، في إقرار رؤيته للقضايا التي يعالجها ، وعدم تجاوز رأي فقهاء المذهب المالكي ، المتقدمين والمتأخرين في الأحكام المتعلقة بالفقه ، والاستناد على أقوال العارفين من أقطاب التصوف الشاذلي كابن عطاء الله السكندري ، وابن البناء السرقسطي ) .

4 – دعا إلى ربط التصوف بمنابعه الأصيلة : القرآن والسنة ، وتطهيره من النزعات الإشراقية الموغلة في التأويل ، وأورد قول أبي الحسن الشاذلي : ( إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف ) .

5 – تجسيد روح العمل المجتمعي في تجربته الصوفية ، وإلحاحه على الاهتمام بالواقع ، والتفاعل مع أحداثه .

وقد تتبع الأستاذ مولاي عمر صوصي علوي شهادات مريديه فيه ، وفصلها على النحو التالي حسب تلميذه الشيخ أحمد بن الحسن السبعاوي :

– اعتمد على التذكير بالموعظة والنصيحة ، وتوظيف زمنه في الدعوة المتواصلة بلا تقيد لا بحال ، ولا بمقام ، ساعيا في مصالح الخلق الحسية والمعنوية ، كثير التلطف والبرور بخلق الله .

– اهتم بأمور المسلمين ، يدعو ويعمل لرفع ما لحقهم من جهل وظلم ، واشتهر عليه قوله : ( عار على أولياء الوقت فساد أهله ) .

– يوصي أصحابه بحسن الظن بالله وبعباده ، ويحضهم على اتباع آداب الشريعة ، ويشيع بينهم خصال التراحم والإخاء والتعاون ، وفي نهاية تتبعه قال الأستاذ صوصي علوي عن محمد العربي المدغري الدرقاوي : ( لم يخرج في منهجه وطريقته عن تعاليم الطريقة الشاذلية ، القائمة على نشر الأخلاق والفضائل الصوفية…..وعدم الاستغراق في مناخ خرق العوائد ، بل يمكن القول إن منهجه يمثل رؤية تجديدية للتصوف ، انتقل فيها بالزهد من مفهومه السلبي ، المرتبط بالابتعاد عن ملذات الحياة إلى مفهومه الإيجابي الذي يرقى إلى مستوى الزهد في الدنيا عن طريق التضحية بالنفس في سبيل حوزة الدين والبلاد……..” 1 ” ) .

الفرع الثاني : منشور محمد العربي الدرقاوي المدغري في الجهاد : خصص الأستاذ الصادق عمري العلوي مقالة لدراسة منشور للدقاوي ، مساهمة منه في الاستشارات السلطانية العامة التي جمعت بين مختلف العلماء ، وقال : ( يعد منشور محمد الدرقاوي وثيقة تاريخية ، تبرز للباحث بعض تفاصيل وجزئيات صورة ” الاستشارات السلطانية ” ذات الحمولة الدلالية اللغوية والتاريخية التي تستقي كينونتها من حقول معرفية دينية تشريعية وثقافية وبيئية ، تمتاز بالخصوبة والتنوع ، متطلعة إلى إماطة اللثام عن بعض خصائص ما تميز به الخطاب السياسي والديني لمراكز القرار…..خصوصا في تلك الفترة الصعبة التي تعرض فيها المغرب في النصف الثاني من القرن 19 لسلسلة من الضغوط الأحنبية ، مما استوجب رأي الفقهاء ، ومنهم محمد العربي الذي ساهم برأيه في النازلة 1276\1859بإبداء موقفه من جهاد الأجنبي المترتب عن الضغط السياسي والعسكري على المغرب ) .

تسمية محمد المدغري بالفقيه من طرف كاتب المقال هو نوع من التحول ، جديدٌ على طرق الاندماج بين مناحي وطوائف الدين كلها ما دام البلد في خطر ، لم يعد الصوفي منعزلا في خلواته النفسية والمكانية ، وإنما صار له عمل مجتمعي واضح ، يحضر مع الناس ، ويجتمع بهم ، ويكشف عن رأيه ، ويحاول الدفاع عن البلد والدين بكل الوسائل المتاحة أمامه ، بل الأمر تعدى هذا الحد إلى قول الكاتب : ( رغم أن الفقيه – محمد المدغري – رجل دين وصلاح ، وشخصية بعيدة عن الاحتكاك التقني بالصناعات العسكرية فإنه كان على وعي كبير بقيمة تشخيص مكمن الخلل في الجيش المغربي ، وقد حدده في ضعف متعدد الجوانب ، منها ما يرتبط بطريقة ترتيب الجيش على المواجهة مع الآخر ، ومنها ما يتعلق بأنواع السلاح المستعملة ، ومنها الجانب النفسي المرتبط بالمحارب المغربي الذي كان إيمانه قويا بالدفاع عن قضيته الوطنية ، لكن نفسيته مهزوزة أمام الانبهار بالتفوق التقني للسلاح الإسباني ) .

انتباه محمد المدغري لمثل هذه الجوانب الطارئة على ثقافة الحرب ، وبالكيفية المطروحة يدل على أن المتصوف المغربي أضحى يستقي مواقفه من أحداث واقعه ، ويلائمها مع علمه ، ثم يعرضها على ميزان الدين ، ويخضعها للحكم المناسب ، وهذا إنجاز كبير على مستوى الإدراك العقلي ، والتصور النفسي .

لو احتملنا أن المدغري رحمه الله واجه ما واجهه من مصاعب بسلبية وعدم المبالاة ، وفضل ترويج النمطية السلبية المرادفة لمعنى التصوف في العصور المتأخرة ، ولاسيما في أوقات الشدة لأفتى وأوصى بفتح الزوايا ، وقراءة الأذكار ، واعتبار المحنة بلاء وابتلاء من الله لعباده ، وهو ما تتلبس به مواقف المتصوفة حتى في زمننا البعيد عن فترة محمد المدغري الذي صحح المسار ، وفضل مواجهة الوضع القائم بتركيباته المختلفة ، والسعي إلى اكتساب وسائله المادية ، ومعرفته الضرورية لضمان النجاح والنصر .

فرق كبير بين التصوف الذي ينطلق من الواقع ، ويحدد معالم النفس والتدين بما تقتضيه المعطيات المختلفة ، وبين النوع الآخر السائد الذي يغلب جانب الترنيمات القديمة ، ويصمت عن المستحدث ، ويعتبر ذلك نجاحا ، أو أولى من الانتصار في معارك الحروب ، وهو إشكال كبير كما قال الكاتب ، يتعلق ( بموضوع التحديث والحداثة بين الدول المتقدمة تقنيا وعلميا وسياسيا ، وأخرى تتلمس طريقة تلك التحولات ، ومنها المغرب الذي كان في واجهة هذه التحولات باعتبار القرب الجغرافي من أروبا ، ولكونه ظل متمنعا عن الانفتاح والانسياق وراء أشكال الضغوط الأوربية لعقود طويلة ” 2 ” ) .

– الفرع الثالث سيهتم بموضوع الجهاد في فكر محمد المدغري المتصوف : في مقال ضمن العدد الخاص بشخصية هذا المقال سنقف مع أستاذ جديد هو الدكتور محمد أمراني علوي على خلفية عقيدة الجهاد في فكر المدغري ، وهي خلفية تستمد وجودها ومشروعيتها من ركيزتين أساسيتين ، الأولى تستند على المفهوم العام للجهاد في الإسلام ( ومعلوم أن ملتي الإسلام والكفر ضدان ، وهما لا يجتمعان بالقوة والفعل في قطر واحد…..فلهذا أمرنا بأخذ الحذر……..والمسلمون لا مندوحة لهم عن القتال ، إما أن يقاتلوا الكفر لنصرة دين الله ، وإما أن يستولوا فيحملوا المسلمين على قتال إخوانهم قهرا ، ولا بد لنا من أحدهما ، وقد اختارت لنا الشريعة المطهرة التي بها صلاح الدنيا والدين مقاتلتهم ومنازلتهم ، وإغزاء طائفة منا في كل سنة إلى بلادهم ، تدعوهم إلى الإسلام ، وترغبهم فيه ، وتكف آذاهم ) .

والثانية خاصة بوضع المغرب المزري آنذاك ، وفيها نوع من التفكير الاستباقي لما ستؤول إليه أوضاع المستقبل : ( لم ينتظر محمد العربي المدغري الدرقاوي تهديد الفرنسيين لتخوم المغرب الشرقية ليستنهض همم المغاربة للجهاد ، بل دق ناقوس الخطر قبل ذلك بكثير ، إذ كتب منشورا طويلا أذاعه في الناس منذ 1280هج\1863م نبه فيه إلى مخاطر استقرار الأروبيين بالسواحل المغربية ، وتعاطيهم التجارة والفلاحة وغيرهما ، مؤكدا أن الوضع آنذاك كان يقتضي الاستعداد لمحاربتهم ، محذرا بأن مقدمة البوار الأمن من عدو الدين ، وعدم المبالاة بما يفعله في أرض المسلمين ، وترك التفطن إليه حتى يصير يأمر وينهي ، ويمتثل أمره في سواحل أهل الإيمان والدين ، ولا يتفطن إليه حتى يتفاقم الوضع ، ويتسع الخرق على الراقع ” 3 ” ) .

موقف جمع كل دلالات المعرفة الصوفية العملية ، أو الجهادية ، وهو مكسب جديد لتلك المعرفة ، جعلها تنزل إلى المجتمع ، وتعانق الناس ، وتشترك معهم في صنع المستقبل المرجو ، معرفة اندمج فيها حكم الدين بتحليل الواقع والوقائع ، وبناء الموقف المطلوب مع التشديد على أهمية صون بلاد المسلمين ، وتحصين المسلم من الرضوخ للجيوش الجبارة الغائرة ، وقبل ذلك يجب أن ننمي في النفوس خاصية الانتباه والاستعداد الباكر لكل الطارئ ، وهذا فيه نوع مما يسمى في وقتنا بقراءة ، أو مطالعة المستقبل مع الفرق الواضح على صعيد المعلومات بين الأمس واليوم .

منشور محمد العربي الدرقاوي المدغري هو مشروع مجتمع تتحرك أطيافه وطوائفه في وقت الشدة ، بني على تصور الإحياء والاستحداثات الملائمة لروح التصوف ، وتداخله مع كل المعارف الأخرى الدينية والعملية ، وفتح به الباب للتفاعل والحوار والنقاش ، والبحث عن الحلول الممكنة لصيانة الدين والبلد ، وكل هذا وزيادة يحسب للدرقاوي المدغري ، وكيفية تصوراته وحركاته الإصلاحية داخل المجتمع المغربي في قرن شديد الوطأة على البلد والأهل .

الهوامش

1\2\3 المقال اعتمد على ماجاء في ثلاث مقالات للأساتذة : الصادق عمري العلوي والدكتور محمد أمراني علوي والدكتور مولاي عمر صوصي علوي ضمن منشور للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بعنوان : ( محمد العربي الدرقاوي المدغري المجاهد والصوفي والعالم ) طبعة 1443هج\2021م ، أما المقالات فوردت بالتتابع في الصفحات : 85 -101\ 103-125\205-214 .

( يتبع )

arArabic