بقلم عبد الصماد الگباص (أرشيف المراكشية)
لا تعني السملالية لمراكشيي اليوم ، سوى تجمع اسمنتي كبير يختلط فيه عدد قليل من الفيلات، بأخطبوط سميك من العمارات. و لا يدل عندهم ها التجمع سوى على عنوان شقة أو متجر أو مقهى، أو شارع صاخب، في كوكتيل فاقد للمذاق يعكس وجه مراكش المعاصرة . مراكش التي فقدت كل شيء من ماضيها و صارت فضاء للسمسرة و السرعة المجنونة والجشع المريض.

السملالية ، كان لها ذكر خاص في تاريخ المغرب الحديث. وأعادها للواجهة كتابٌ هام صدرت ترجمته العربية عن مغامرة جاسوس مزدوج الولاء لإسبانيا وفرنسا، حل بالمغرب في بداية القرن التاسع عشر متنكرا ، منتحلا صفة أمير عربي من سلالة الأسرة العباسية، وذلك بقصد التهييء لاستعمار المغرب.
عنوان الكتاب “علي باي العباسي : مسيحي في مكة ” ، يتضمن تقارير و رسائل بعثها الأخير إلى المسؤولين الإسبان، “دومينيغو فرنشيسكو باديا” الوكيل الاستعماري الذي قدم إلى البلاد العربية ابتداء من المغرب ، بهوية مزيفة برع في إتقانها ، وفي إقناع المسؤولين المغاربة وفي مقدمتهم السلطان مولاي سليمان، بجديتها إلى حد تغلغله في دوائر النفوذ الملكي حينها، و استقطاب ثقة السلطان فيه، وثقة معاونيه من وزراء و وجهاء و قواد للجيش ،بل و حتى الأعيان ، إلى حد طمعه في قلبهم على الملك.
و يشير في الكتاب أنه بعد لقائه بالسلطان مولاي سليمان باسم الأمير علي باي العباسي، وتقديم هدايا ثمينة له جلبها معه من إسبانيا، تتكون من عشرين بندقية إنجليزية ، وبندقيتين من العيار الكبير ، و زوجان من خمسة عشر مسدسا إنجليزيا ، و بضعة آلاف من أحجار الاشتعال، و كيسي رصاص من طلقات خردق الصيد، و مجموعة لقطع الصيد كامل، وبرميل من أفضل البارود الإنجليزي ، وقطع ثوب موصلي نفيس مطرز، ومجوهرات صغيرة ، شمسية ثمينة ، و عطور، استطاع أن يكسب ثقته ، حيث بادل السلطان هداياه له، برغيفين من الخبز الأسود .
و من اللقاء الأول أجلسه السلطان إلى جواره ، و خاصة عندما سمع حكايته التي أخبره فيها أنه من سلالة العباسيين ، و تشردت عائلته في بلاد الكفار . فرحب به السلطان في بلاده ، و أكد له صداقته و حمايته له .
و كان قناعه الأول في إخفاء مهمته الأساسية بالديار المغربية ، هو الاستكشاف الجغرافي ، حيث أبهر السلطان و معاونيه ، بمعدات فلكية ، صحبها معه من الشمال ، مما جعل السلطات يدعوه لخدمته بتيسير تنقلاته عبر المملكة . ضامنا تحركاته في قافلة صغيرة تحت المظلة السلطانية التي لا يستخدمها سوى أبناء السلطان و إخوته .
و عند التحاقه بالسلطان مولاي سليمان بمراكش ، كان التجسيد الأقصى لثقة الملك فيه و مدى تقريبه منه ، منحه قصر جنان السملالية للإقامة به ، و هي الواقعة التي يتحدث عنها الكاتب العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم قائلا : « و ما أن التحق بالسلطان إلى مراكش ، حتى خصه بما لم يخص به أحدا من قبل ، فقد منحه بمقتضى ظهير سلطاني ، بيت استجمام خاص يسمى ب”السملالية ” و هي أرض واسعة مشجرة بالنخيل و الزيتون ، وخصص له بيتا كبيرا يسكن فيه ..»
و انطلاقا من إقامته بجنان السملالية بمراكش ، كان «باديا» المعروف لدى السلطان و حاشيته بعلي باي العباسي ، ينجز مهمته التي جاء من أجلها ، و هي خلق شروط الاستياء الشعبي من السلطان ، و إقناع هذا الأخير بطلب حماية الإسبان ، للتمهيد لاستعمار الجارة الجنوبية . فكان يكثف تنقلاته ، و يستميل إليه أعوان السلطان في مختلف الأقاليم كمقدمة لتأليبهم ضده ، إلى أن انكششفت خطته و رُحل بالقوة من المغرب سنة 1805 .
و نقل دومينيغو فرنشيسكو باديا المتنكر في شخصية أمير مسلم اسمه علي باي العباسي ، في كتابه مشاهدات و ملاحظات عن المجتمع المغربي في تلك الفترة ، مثل تلك التي يسوقها عن طنجة بنبرة لا تخلو من ازدراء استعماري و التي يقول فيها : « الطبع المميز لأولئك الناس هو الكسل ، فهم يُرَون جالسين أو ممددين في أية ساعة من ساعات النهار ، على طول امتداد الشوارع ،و في أمكنة عمومية أخرى ، إنهم مثرثرون أبديون و زوار ثقال ..»
دومينيغو فرنشيسكو باديا ، قام برحلته ، التي مر فيها من مراكش ، في الفترة الممتدة من 1803 إلى 1807 ، إلى المغرب ، و طرابلس ، وقبرص، ومصر، والجزيرة العربية و سوريا و و لبنان و الأردن و فلسطين و تركيا ، و شهد على الغزو الوهابي لمكة سنة 1807 أثناء أدائه للحج .