الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

جامعة ابن يوسف بمراكش : الرد على تحديات الإنكار والمحو – 2/1

للمراكشية : الأستاذ محمد الطوگي 

كلمة بمناسبة إقامة جمعية ابن يوسف للثقافة والتنمية والتضامن لندوة فكرية احتفائية وتكريمية. وذلك بتاريخ 7/1/2023 بكلية اللغة العربية بمراكش

الحضور الكريم : السيدات الفضليات ، السادة الفضلاء، أشكركم داعين ومدعوين.
ومن باب الاعتراف بالجميل؛ أكرر شكري لجمعية ابن يوسف للثقافة والتنمية والتضامن على حسن ظن أعضائها، الذين أبوا إلا أن يدرجوا اسم هذا الطالب المتواضع المزجى البضاعة ضمن قائمة مكرميهم، من خريجي هذه الجامعة التليدة التي سادت زهاء تسعة قرون وقدر الله لها وقضى أن تباد … ! .
وأرى في هذا الاحتفاء العلمي الرصين، الذي باركته وأغنته عروض هذه الثلة من الأكاديمين المتميزين، وساهم فيه وغطاه صحفيات وصحفيون ذوات وذوو كفاءة مهنية عالية، أقول أرى في هذه الندوة الجامعة بين الاحتفاء بمجلة ابن يوسف والتكريم مناسبة من بين أخر ممكنة، لاستثارة أقلام الباحثين لتناول تلك الأزمنة الجميلة التي تعلقت فيها جامعتنا اليوسفية في أيام عزتها بأقراط الثريا، وتصاعدت في سماء العلوم رايتها، تباهي بمعارفها سائر الجامعات التي عاصرتها. بما ساهمت به وبصمت به صرح الثقافة الإنسانية .
بعد هذه الذيباجة التي يفرضها هذا المقام المفعم بمشاعر المحبة والوداد، أتقدم في البدء بين يدي كلمتي : جامعة ابن يوسف الرد على تحديات الإنكار والمحو ؛ المرتبطة ارتباطا وثيقا بشعار هذا اللقاء جامعة ابن يوسف الذاكرة والكتابة. قلت أتقدم منبها إلى أن حديثنا عن الإنكار المشار إليه في هذا العنوان. مؤطر زمنيا بثلاثينات وردح من أربعينات القرن الماضي، بينما تبتدئ مرحلة المحو بأواخر الخمسينات نفس القرن ؛ لتنطلق معه مشاعر الحنين والمطالبة المراوحة بين الاحتشام والالحاح.
وإذا فما الذاكرة ؟ وما الكتابة ؟ ومتى تستثار الذاكرة لتعرب عن مكنونها بالخط والتدوين ؟
فما الذاكرة ؟
لن نتيه في تعريفات المدارس النفسية، وسنكتفي بتعريف واحد مبسط فنقول :
إنها مكون من مكونات الدماغ وهي تلك القدرة القائمة بالتسجيل والتخزين والقابلة لإحياء حالة شعورية مضت وانقضت مع العلم والتحقق بأنها جـــزء من حياتنا الماضية” (1).
والذاكرة أنواع منها الخاصة والعامة، والفطرية والاصطناعية والحادة والمترهلة، والفاعلة والمنفعلة، وسنقف عن هاتين الأخيرتين لأنهما من خلفيات بحثنا.
فالذاكرة المنفعلة هي التي تتوخى استحضار الواقع كما هو فهي بمثابة المرآة العاكسة. وهنا نتساءل عن التذكر الذي هو من هذا القبيل هل هو فعلا بريء ؟ أي تكرار بحت لماض تولى أم إن للماضي سلطة على الذاكرة يتسلل إلى وجدان المتذكر ليمزجه بجملة من الأحوال الانفعالية. (2)
أما الذاكرة الفاعلة: “فهي التي تستدعي الماضي قصد تدميره وتحويره وجعله أرضية بعيدة لنبض الحاضر. ففي هذا النوع من التذكر استرجاع وتخييل وتحوير”. (3) وتسخير للماضي لخدمة رؤيا معينة.
بعد هذا التعريف الموجز للذاكرة أتساءل عن دلالة الكتابة.
فما الكتابة ؟ : من دلالتها اللغوية “التثبيت والإحكام. يقال كتب القربة والمزادة يكتبها كتبا إذا خرزها بسيرين حتى لا ينفذ أو يقطر منها شيء” (4).
ففي الكتابة تسجيل وبينة ، فالأمور المهمة والخطيرة تكتب، وفي القرآن الكريم “إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبور” سورة البقرة /281.
والكتابة وسيلة لنقل حمولة الذاكرة إلى الخارج. فللذاكرة أهمية سواء على مستوى الشعوب أو الأفراد. فالشعب الذي لا ذاكرة له ولا تاريخ هو شعب فاقد السيادة ومآله هو الانبهار والتبعية. ومقولة المركز والمحيط الاستعمارية موظفة لإلغاء ذاكرة الشعوب وتدجينها لتقبل الاستعمار.
فالأمة التي لها ذاكرة وتاريخ قد تعتريها عوامل الضعف فتخرج من التاريخ، ولكنها قابلة للعودة إليه بريادة، ولنا في الصين والهند وتركيا خير دليل (5).
ثم إن الذاكرة لا تجود بالمناسب من مخزونها إلا إذا توفرت دوافع الاستذكار والاسترجاع؛ ومنها الإنكار والمحو كما هو الشأن بالنسبة لموضوعنا.
أ- فدافع الإنكار:
إنكار أن تكون في مراكش جامعة، كان عاملا وحافزا مولدا لعمل العلامة رئيس الجامعة اليوسفية محمد بن عثمان الحامل لعنوان ” الجامعة اليوسفية بمراكش في تسعمائة سنة” ألفه كتاريخ لنشأة الدراسة في الكلية اليوسفية منذ عهدها التأسيسي المرابطي إلى العصر العلوي. هذا المشروع أنجز منه الجزء الأول وطبع بالمطبعة الاقتصادية بالرباط سنة 1356هـ / 1937م (6).
وسنة النشر هذه تقع في نهاية مطاف مناقشة الإصلاح التربوي العظيم المعروف بالنظام، كما تقع في عز محاججة ابن عثمان لمنكري استئهال مراكش أن تكون لها جامعة.
يقول ابن عثمان : “كانت جامعتنا اليوسفية بالحضرة المراكشية ؛ أعز الله حماها وضاعف للمكرمات علاها، قد تعلقت في أيام عزها بأقراط الثريا، وتصاعدت في سماء العلوم رايتها تباهي بمعارفها سائر الجامعات ؛ بما قدمته للإنسانية من ترقية المدارك في عهد الدولتين المرابطية والموحدية ومن جاء بعدهما … إلا أنها اعترتها فترة كَبَا فيها جواد إبداعها، مما أضعف من مركزها العلمي كغيرها من سائر المعاهد العلمية في المغرب وهذه الفترة التي كَبا فيها جوادُها مهد لكثير ممن يضمرون لها السوء أن ينزلوا بها عن مكانتها السامية إلى مكانة تجعلها دون شقيقتها الأخرى –القرويين- استضعافا منهم لأبنائها (7).
ويقول : “… وقد وقعت لنا محاورة في هذا الموضوع سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وألف، مع بعض الأساتذة الذين أنكروا أن يكون في مراكش علماء كعلماء فاس، وأن تكون فيها دروس صالحة لتثقيف الشباب وتكوينه تكوينا علميا، إلى غير ذلك مما وقعت المناظرة فيه مع الأستاذ الذي قد أنكر قبل ذلك في محاضرته أن يكون علماء حتى في فاس” (8).
ويقول : “لذلك حركتني تلك العاطفة وذلك الحلم نحو جامعة قد أمدتني في معارفها في أول نشأتي العلمية بدروس أولية، رأيتها في الاعتبار كأهم عنصر أسِّسَتْ عليه ثقافتي الشخصية، فرأيت من البرور بها والإنصاف لأهلها التفكير في أطوارها العلمية وما قامت به نحو بين جلدتي من تقدم وتخريج. على أن لي مقصدا آخر في إحياء تلك الروح المعنوية في هذه الجامعة ؛ لتسترد مكانتها الأولى وتتصل بذلك حلقة الأحفاد بالجدود”. (9)
فهذا النوع من المحاججة جرى -كما قدمنا – في غضون تطبيق أعظم وأنجع إصلاح تربوي عرفته ثلاثينات القرن الماضي لغاية بداية الخمسينات وبالضبط سنة 1953 وقد راهن على استضمار متلقيه لمقومات الوطنية. (إذ الوطنية شعور وسلوك وتطلع . فالشعور هو اعتزاز بالذات والأجداد، والسلوك هو الإيثار والتضحية، والتطلع هو طلب الحرية والتقدم والرفاهية) (10).
ولاغرابة إذا كان أبو بكرة هذا الإصلاح ومبدعه جلالة المغفور له الملك محمد الخامس. وقد حرص جلالته على رعاية النظام ومتابعة تطبيقه ؛ حيث كان رحمه الله يعقد سنويا جلسة للمجلس العلمي الأعلى للقرويين والمعاهد الدينية. وهذا صحافي رسالة المغرب يصف جلسة من جلسات ذلك المجلس المنعقدة بتاريخ 8 نونبر سنة 1943 ومن مجرياتها (… أن وقعت المصادقة على ملاحظة مدير ابن يوسف، فيما يرجع إلى القسم العالي الذي افتتح في هذه السنة 1943 وللزيادة في أجور الموظفين. وأخبر جناب المدير جلالته بأن بعض المحسنين بمراكش عزم على إنشاء مدرسة قرآنية، وقد حبس دارا لإنشاء المدرسة فيها، وريعا يغل نحو المائة ألف فرنك للإنفاق من ريعه عليها، وهو مستعد لتعزيزها بثانية إذا سوعد على ذلك. فأمر جلالته معالي مندوب المعارف بمساعدته وشكره على هذا الإحسان العظيم) (11).
وبحسب هذا النقل الصحفي النابض بالحياة والمسجل لوقائع تلك الجلسة، تكون الجامعة اليوسفية قد استكملت مكوناتها في عهد رئاسة ابن عثمان ؛ بفتح القسم النهائي بشعبتيه الأدبية والشرعية وذلك في سنة 1943. وطبقا لذلك فسيتخرج أول فوج بشهادتها العلمية سنة 1945 ومن طلائعه عبد الله إبراهيم.
فمن خلال هذه الفدلكة التي أوردناها في معرض دعوى الإنكار من جهة وإبطالها من جهة أخرى، نرى ابن عثمان قد حمل هم مشروع جامعة ابن يوسف لسنوات، وظل يناضل من أجله كتابة ومحاورة ومحاضرة إلى أن رأى النور وأتى أكله. وكان من أمانيه أن ينسئ الله تبارك الله وتعالى في عمره فيحظى بمباركة الاحتفاء بأول فوج يجسد ثمرة مجهوده العلمي والوطني. إلا أن القضاء قد حَمَّ عليه، وكان ما كان مما لست أذكره من موت الفجاءة … ؟ !.

يتبع …

arArabic