الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاثمراكش الذاكرة

المدخل الطبوغرافي لمدينة مراكش الإسلامية الوسيطية 3/3

تخطيط  مدينة مراكش ونواتها مسجدها :

تؤكد المصادر التاريخية والجغرافية وكتب التصوف والمناقب والتراجم (16) والسير، ما ذهبنا إليه من مواصفات اختيار مشروع فضاء المدينة ، يقولابنعذاري :

في هذه السنة (461هـ) ضاق المجمع بمدينة اغمات أوريكة عن الخلق فيها،  فشكا أشياخ أوريكة وهيلانة بذلك إلى الأمير أبي بكر بن عمر مرةبعدأخرى، إلى أن قال لهم : عينوا لنا موضعا أبني فيه مدينةإن شاء الله تعالىوكان سكناه مع إخوانه في الأخبية حتى ابتنى بزوجهزينبالنفزاوية هذا العام، فزاد الخلق باغماتفوقع تدبيرهم أن يكون موضع تلك المدينة بين بلاد هيلانة وبين بلاد هزميرة ، فعرفوا بذلك أميرهم، أبابكربن عمر، وقالوا له : قد نطرنا لك موضع صحراء لا أنيس به إلا الغزلان والنعام، ولا تنبت إلا  السدر والحنظلفنظروا له ذلك الموضع لكي يكونوادينفيس جنانها، ودكالة فدانها، وزمام جبل درن بيد أميرها طول زمانها. فركب الأمير أبو بكر في عسكره مع أشياخ القبائل فمشوا معه إلىفحصمراكش وهو خلاء لا أنيس به ، فقالوا له : ابن هنا مدينة تكون متوسطة بين هيلانة وهزميرة ” (17) .

فهذا النص يشير إلى مواصفات الموضع الذي اختير لتشييد المدينة. فمن حيث أمنه فهو بمبعدة عن أغمات بحوالي اثني عشر ميلا حسبالادريسي(18) وفي ذلك إشارة إلى مأمنه من هجمات مصامدة درن. فجبل درنالأطلس الكبيرهبة ربانية  سُخر ليدرأ عن مراكش عواتيالصحراءوسَمومها وأنواءَها، ويغذق عليها من ذوب ثلوجه مياها سطحية متدفقة في مجاري وادي اوريكة ونفيس، وأخرى جوفية مدخرة، ناهيك عنالمناخالصحراوي الجاف.

أما المسجد الذي نعتبره نواة للمدينة وهي وليدته فهو جامع علي بن يوسف، فهو المسجد العام لا الخاص بقصر الحجر حيثيستشف من روايةأبيعلي صالح أن البدء في بناء ذلك  المسجد كان في عهد علي، بعد أن أمر بهدمه ؛ نظرا لضعف مادة بنائه القائمة على الطوب والطين فقط، وخلالهذاالبناء الجديد أقيمت إلى جواره بعض المنازل، كما يستشف من نفس الرواية أن قبلته عرفت تصويبا ؛ حيث اجتمع أكثر من أربعين فقيها، ضمنهمابنرشد الجدأبو الوليد محمد بن أحمد كان  حظيا عند علي بن يوسفوحولوا محرابه نحو الاتجاه الصحيح” (19).

ولعل مسجد ابن يوسف هذا هو نفسه الحامل لاسم مسجد السقايةيذكر الادريسي أن أهل مراكش، فيما يتعلق بالماء الصالح للشرب،كانوايعتمدون على مياه الآبار، إلى أن جلب إليهم  علي بن يوسف ماء من عين تبعد عن المدينة بأميال، ثم طورها بعد ذلك  الموحدون، خاصة  فيعهدالخليفة الموحدي أبي يوسف، الذي أرسل في وسطها ساقية تشقها من القبلة إلى الجوف، ومنها استنبطت سقايات لشرب الناس، كما أقيمصهريجكبير لتجميع المياه” (20)،  ولهذا المسجد أهدى الخليفة الموحدي المرتضى المصحف الذي خطه بيمينه ؛ ولا تزال إلى اليوم تجزئة منه بخزانةابنيوسف حاملة لإهدائه  لمسجد السقاية ، وقد كشفت الحفريات عن خزان للماء قبالة مسجد ابن يوسف بمقربة من ميضأة البعديين. وقد أعجبمارمولالذي كان متأخرا بهذا الصهريج الكبير الذي يغذي سائر مرافق المدينة بالمياه (21) . وبمجاورة المسجد لهذا الصهريج أو السقاية، يصبحمسجد ابنيوسف جامعا بين مفهوم الشريعة لغة واصطلاحا.”فالشريعة في اللغة تعني الماء الغزير الذي يستسقى من غير احتياج إلى رشاء أو دلاء(22) ، ومنهالمثل أهون السقي التشريع. أما التشريع الاصطلاحي فقد اعتبره الشاطبي في الموافقات شاملا للأحكام العملية والأحكام الأصليةالعقدية، ويسمىحتى مكي القرآن بالتشريع مع أن جل ما فيه متصل بهذه الأحكام العقدية” (23) .

وهكذا نرى خضوع البنيات العمرانية في المدينة المغربية الوسيطة، من خلال نموذج مدينة مراكش، للفكر والنظر العمراني الإسلامي والتقنياتالمستمدةمن تعاليمه، وقد تفطن المستشرقون المنصفون إلى خصوصية المدينة الإسلامية الوسيطة وتميزها عن بقية مدن الحضارات الآخرى.  فهذاليفيبروفنسال (24) (1894-1956) عمدتهم،  بل عمدة الباحثين  في تاريخ  الغرب الإسلامي، ينص في محاضرة قيمة له على أنالمركز الحقيقيالذييعد قلب المدينة الخفاق هو المسجد الجامع وما يلاصقه. والمسجد الجامع، في أي مدينة إسلامية لها شيء من الأهمية،  ذو منزلة تعلو على كلإطناب،ذلك بأنه ليس بيتا للعبادة فحسب، ولكنه المركز الذي تدور حوله الحياة الدينية والعقلية والسياسية في المدينة. وليس من المبالغة أن نقول إنمكانةالمسجد الجامع  في المدينة الإسلامية شديدة الشبه بمكانة الأجورا Argora أو الفوروم Forum في المدينة اليونانية أو الرومانية. فكما أنالسلطانالإسلامي يعتبر صاحب السلطتين الدينية والسياسية، كذلك يكون للمسجد دور مزدوج يقابل ذلك .

فقد كان المسجد في المدن الإسلامية الأولى ؛ كالمدينة والبصرة والكوفة والفسطاط يقام في وسط المدينة وبجانبه مقر الولاة ؛ لأن صاحب السلطانهوصاحب الصلاة وصاحب الخطبة ، وإنما يكون اتصاله برعاياه من فوق كرسي الخطبة الذي هو المنبر، فمن  فوقه تلقى الخطب الدينية، ومن فوقهتعلنللناس الأخبار الرسمية ؛ كنتائج الغزو وإبلاغ البيعة والإعلامات الخاصة بجباية الأموال. وقد كان المسجد أيضا مقر الإدارة الإسلامية الأولى،ونحننعلم أنها لبساطتها كانت تحتمل ذلك،  ثم إن المسجد ظل وقتا طويلا  المقر الوحيد لمجلس القاضي، والمركز الوحيد للتعليم الديني .

فالمسجد الجامع على العموم، لا مقر الحاكم ، هو الذي يجب أن يتخذ مفتاحا لكل دراسة طبوغرافية أو تاريخية في أي مدينة إسلامية . والواقع أنهمنالنادر أن يصف جغرافي عربي مدينة إسلامية دون أن يبدأ بجملة من الأخبار عن المسجد الجامع فيها، بحيث إنه يذهب بالنصيب الأكبر منالوصف. فالإدريسي عندما يصف قرطبة يخص جامعها بالنصيب الأكبر من الوصف، وكتاب مثل زهرة الآس الذي يتناول فاس في عصر بني مرينيكاد يقتصرعلى وصف جامعيها ، جامع القرويين وجامع الأندلس.

ثم ملاحظة أخرى لا بد منها وهي أن جوهر الحياة الاقتصادية في المدينة إنما يرتكز في جوار المسجد الجامع، والأغلب أن يفصل شارع واحد بينبيتالعبادة والأسواق التي تقام فيها  تجارة المنتجات الصناعية وسلع الترف وغير ذلك من تجارة القيسارية ” (25).

سقنا هذا النص ، بالرغم من طوله، لوزنه العلمي ونفاسته ودلالته على أن المسجد هو مفتاح المدينة الإسلامية ؛  الديني والسياسيوالإداريوالاقتصادي والثقافي . وهذه نظرية عامة لا تستثنى منها أي مدينة إسلامية .

ومن علماء الاستشراق الذين انتبهوا لهذا النسق وأخذوا به عمليا، أثناء زيارتهم العلمية لمدينة مراكش جوزيف شاخت (26) المختص فيالتشريعالإسلامي، صنف فيه ، وكتب عن مجموعة من مواده في الموسوعة الإسلامية ، زار شاخت مدينة  مراكش في غضون الخمسينات مرتين، فكانمنطلقرحلته في التعرف على المدينة من خزانة ابن يوسف المرتبطة بمسجد علي بن يوسف بمدخلين داخلي و خارجي، والهدية التي قدمها بين يديزيارته الأولى، عبارة  عنكتاب الجهاد والجزية وأحكام المحاربينمن كتاب اختلاف الفقهاء للطبري، أصدره بعنايته وتحقيقه، وخط في الزاويةاليسرى من الصفحة الأولى للكتاب بالحرف والأسلوب العربيين : “هدية لمكتبة مدرسة ابن يوسف بمراكش المعمورة ، وتذكرة لزيارتي لها في شهررجب 1369 هـ ،أدامها الله وأيد علماءها ، كتبه أفقر طلاب العلم،يوسف شاخت“. واكتفى في الكتاب الذهبي للخزانة في هذه الزيارة بكتابة اسمهومقر عمله آنذاكوهو Collège  Oxford انجلترا.

وعندما عاود الزيارة ، وانطلاقا من نفس النواة، وعود على ما كان قد ابتدأ به من ذي قبل ، كتب في الدفتر الذهبي للخزانة لكن هذه المرة بالفرنسية .

« Pour la deuxième fois, je viens de passer des heures inoubliable et fructueuses dans la bibliothèque de la medrassa d’Ibn Youssef et avec mes amis les savants marocains «  11/10/1952

أزور خزانة مدرسة ابن يوسف للمرة الثانية، وقضيت فيها ساعات مفيدة، لا يمكن نسيانها، إلى جانب أصدقائي علماء المغرب .

إلى جانب هذا الاستشراق المنصف والمثبت لأصالة المدينة الإسلامية ، هناك استشراق مغرض نفي عن المدينة الإسلامية كل أصالة وتميزونسق،واعتبرها عبارة عن بنى متناثرة عشوائية لا يجمعها جامع، ولا يربط بين مكوناتها رابط (27)، وفريق استشراقي ثالث نظروا إلى المدينةالإسلامية منخلال مخيال حضارتهم الغربية ، فاتخذوا مدخلها  الطبوغرافي من الساحة ساحة جامع الفناء، قياسا على ما وقر في أذهانهم عنالأجورا Agora اليوناينة أو الفوروم Forum الروماني .

من خلال ما تقدم نعلم أن نموذج المدينة الإسلامية الوسيطة هو المدينة المنورة، وأن مفتاحها الطبوغرافي هو المسجد الذي يتحكم في تأثيث ما يدورفيفلكه من مؤسسات إدارية  وأسواق ومناطق سكنية وساحات ، دون أن ننسى فعل الزمان ودور التاريخ في تحوير تلك المنظومة المتوالية منمكوناتالمدنية من غيــــر مساس بروحها (28) .

نعمفقد تجاور المسجد ودار الخلافة ابتداء اقتداء بالتنظيم الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تحولت دار الإمارة ، في فترة لاحقة، إلىقبلةالمسجد كي يستطيع الملك أو الأمير أن يخرج منها إلى الباب في جدار القبلة مباشرة، وينفذ إلى المقصورة دون أن يتخطى رقاب المصلين، كماحدثفي الكوفة سنة 17 هجرية وفي البصرة سنة 44 هـ .

ثم دعت الحاجة الأمنية في بعض البلاد إلى تمهيد طريق يسمى ساباط، يربط القصر بمقصورة المسجد مباشرة ، كما حدث في قرطبة وإشبيلية .

ودعت نفس الدواعي إلى عزل المنطقة المركزية الجامعة للمسجد والقصر والدواوين (29) بواسطة سور يفصلها عن المدينة العامة أو ساحةولعلهذاهو شأن مراكش في عهد المرابطين حيث فصلت الساحة بين القصر والمدينة العامة ووظفت لأيام الزينة والمناسبات العامة  وفي تنظيم تال، وفيعهدالفاطميين، انفصلت دار الإمارة نهائيا عن المسجد، ومهدت بينهما شوارع تتسع لموكب الحاكم أثناء خروجه إلى الصلاة ، مثلما حصلبسامراءوالقطائع والقاهرة” (30). والتحوير التاريخي الذي حدث في علاقة المسجد ببقية البنى لا يعني أبدا انفصال الشأن الديني عن الشأنالسياسي،كما هو حال انفصال الكنيسة البيزنطية والرومانية التي تتوسط المدينة، واستقلت عن قصر الحاكم، منبئة عن استقلال السلطة الدينية عنالسياسية ،فما لله لله وما لقيصر لقيصر.

وما دمنا قد تحدثنا عن المدينة في علاقتها بالسيرورة التاريخية،  فإننا نضيف أن المدينة الإسلامية لم تنطو على نفسها انطواء تزمت، بل انفتحتعلىجميع الحضارات العظيمة، ثم إنها أسست مدينتها الذاتية النابعة من القانون السماوي. وقد أكدت خصوصيتها مختلف وظائف مؤسساتهاالدينيةوالمدنية (31).

arArabic