الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاثملفات خاصة

الجـبـل والإنـسـان والذاكـرة.. من خلال سيرة العلامة المغربي الحبيب البشواري

بقلم ذ محمد الطوگي

1282هـ1866م / 1397هـ – 1977م)

قال الفقيه الحاج ابراهيم بن العربي : عندما قنبلت فرنسا مداشر تنالت سنة 1933 مستهدفة مدرسة خالي المجاهد الشيخ محمد الحبيب، التجأ إلى مغارة فوق وادي ترودانت، فخرجت في إثره حاملا إليه في مزادة ما يتبلغ به، وبمجرد ما وقفت عليه تذكرت قوله تعالى في الآية 40 من سورة التوبة : ” إذ هُما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا “

بتصرف من كتاب الرتائم ، موحتاين عبد الله ص 34-33

دواعي الكتابة :

سمعت الكثير عن العالم النفَّاعة والولي الصالح المجاهد سيدي الحاج محمد الحبيب البشواري: (1282 هـ / 1866 م – 1397 هـ /1977 م)، من خلال ما حكاه لي بعض العلماء اليوسفيين المراكشيين، الذين شدوا الرحال في أواخر ستينات القرن الماضي إلى مركزه العلمي في تنالت بقمم الأطلس الصغير ؛ رغبة في الظفر برؤيته الدارئة لشر الدنيا والآخرة (1) ، والاستفادة من غزير علمه، والتشرف بإجازته. وعلمت من آخرين زواره تبركا، فحظوا بحرارة الاستقبال، وموفور العناية والمكارمة، والنصح المقرون بصالح الدعاء، كما استهواني ما يتداوله عامة السوسيين عن كراماته ومناقبه ورجاء تحقق استجابة الدعاء بين يديه. فهذه القيم السامية الجامعة بين العلم والجهاد والمجاهدة والغنى عن الناس ؛ المفضية إلى تنزل البركات، جعلت المتنفذين والكبراء وذوي الثراء يشدون الرحال إلى مضاربه ؛ رجاء الانتفاع بدعوات من أعرض عن دنياهم، ووجد اللذاذة في التزود للسفر إلى دار المعاد بتسخير الدنيا للآخرة ؛ بخدمة العلم والتبتل وكثرة الأوراد والتقرب إلى الله بالنوافل والاستغراق في الأذكار. و بعد وفاته نعته مجموعة من المنابر الإعلامية من مختلف الأطياف، مذكرة بعمره المديد 115 سنة قضاها كلها في صحبة العلم والعيش في رحابه قارئا وسامعا ومربيا ومجاهدا.

فبهذا المسموع والمكتوب اشتدت لدي الرغبة، وتقوت الهمة في التعرف على هذا العلم عن كثب بقصد الاستفادة من زخم هذه الذاكرة. فترجمة الأعلام كما يقول صاحب معجم الأدباء “تعلم الخلق والأدب والجد، وتعرف بأخلاق الإمامة في العلم والدين (2) “.

فرجعت إلى ما جمعه تلامذته من رسائله، وما أتيح من سيرته وأعماله، وما نقل عن مسلكيته، من خلال ما كتبه عنه محمد المختاري السوسي، وتلميذه بمنزلة الابن موحتاين الحاج عبد الله الذي جمع عمله بين تراث الشيخ الحاج محمد الحبيب ودراسته ، وفذلكة مما كتب عنه في المخطوط والمنشور، بالإضافة إلى التعريف المسهب الذي كتب عنه الأستاذ عمر افا في معلمة المغرب (3) .

وقد تناتج عن هذا السماع والقراءة عنوان هذه المداخلة المتواضعة .

وحينئذ فما الجبل ؟ وما هي تداعياته في الفكر العربي الوسيط ؟ وما علاقة الجبل بالذاكرة المغربية، وبالمسيرة العلمية والصوفية والجهادية بابن الأطلس الحاج محمد الحبيب البشواري .

الجبل ودلالته في التراث العربي :

الجبل في لسان العرب : “اسم لكل وتد من أوتاد الأرض إذا عظم وطال من الأعلام والأطواد والشناخيب، وأما ما صغر وانفرد فهو من القنان والقور والأكم، والجمع أجبل وأجبال وجبال.

وأجبل القوم صاروا إلى الجبل، وتجبلوا دخلوا في الجبال، ويستعار الجبل للدلالة على المجد والرفعة، فالجبل سيد القوم وعالمهم ، وأجْبَل يعني أيضا انقطع” (4).

فالجبل إذا ارتفاع مهم لسطح الأرض. واللغة العربية تميز بين المرتفعات العظيمة وتقسمها إلى أعلام وأطواد وشناخيب، وأماما لم يعظم ارتفاعه فمن أقسامه القنان والقور والأكم. وليست هذه الأقسام من قبيل المترادفات بل لكل قسم سماته ودلالته .

وقد جمع زكريا القزويني (600 هـ – 682 هـ) في كوسموغرافيته “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات (5) ” كل ما انتهى إليه من معلومات حول الجبل من حيث علم نشوء الكون، انطلاقا من قوله تعالى : ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) (6) وتحدث عن عجائب قرابة سعبين جبلا من معظم أنحاء المعمور، وتناول غرائب المياه والمعادن والنباتات والمسارب والرسوم المنحوتة والمغارات، وما أقيم حولها أو عليها من معابد، وما حدث على ظهرها للأنبياء من مجريات، وتفضيل العباد والنساك لسكناها. ومن هذا الكم الهائل سنكتفي بإلقاء نظرة على بعض الجبال وشيء من تجلياتها انطلاقا من جغرافية الجبل المقدس لتنتهي إلى بركة أصلسنا.

– جبل ثور الطحل (7): بقرب مكة فيه الغار الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصديق رضي الله عنه لما خرجا من مكة مهاجرين ، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه العزيز حيث قال : (إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) (8).

– جبل الجودي (9) : بقرب جزيرة ابن عمر من الجانب الشرقي. استوت عليه سفينة نوح عليه السلام كما أخبر الله تعالى (وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي) هود/44، وقد بنى نوح عليه السلام مسجدا وهو باق على عهد القزويني يزوره الناس .

– جبل حراء (10): بمَكة على ثلاثة أميال منها، به غار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل الوحي، يأتيه للخلوة فأتاه جبريل عليه السلام هناك ، وهو موضع مبارك يزوره الناس، وبهذا الغار نزلت سورة العلق ( إقرأ باسم ربك الذي خلق).

– جبل الرقيم (11): وهو المذكور في القرآن الكريم ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) الكهف /9 : والجبل بالروم بين عمورية ونبقية .

– جبل طور سيناء (12) : بقرب مدين بين الشام وبين قرى مدين، وقيل إنه بقرب أيلة، كان عليه الخطاب لموسى عند خروجه من مصر ببني إسرائيل. وهو الجبل الذي ذكره الله تعالى حيث قال : (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) الأعراف /143 .

– جبل ربوة (13) : على فرسخ من دمشق : ذكر بعض المفسرين أنه المراد بقولــه تعالى : (وآويناهما إلى رُبوة ذات قرار ومعين) المومنون /52 . وهو جبل عال على قلته مسجد حسن.

– جبل قاسيون (14) : مشرف على دمشق فيه آثار الأنبياء، فيه مغارات وكهوف.

– جبل لبنان (15) : مطل على حمص فيه الفواكه والزروع من غير أن يزرعها أحد، يأوي إليه الأبدال لما فيه من القوت الحلال … الخ .

– جبل الصفا وجبل المروة ، جبل الرحمة …الخ

الحمولة السياسية أو الإيديولوجي للجبل عند الكيسانية .

– جبل رضوى (16) : يبعد عن المدينة بسبعة مراحل، ويزعم الكيسانية ، وهم فرقة شيعية ، أن محمد ابن الحنفية مقيم فيه وأنه حي، وأنه بين أسـد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء و عسل، ويعود بعد الغيبة ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ، وهو المهدي المنتظر. يقول كثير عزة في مدح محمد ابن الحنفية:

وسبط لا يذوق الموت حتى *** يَـقـُود الخيل يَقْدُمُها اللـــواء

تغيَّب لا يــرى فيهم زمانـا *** برضــــوى عنده عسل وماء

وكان السيد الحميري على هذا المذهب، وفي محمد ابن الحنفية يقول :

ألا قُـلْ للوصي فـدتك نفسي ** أطلت بذلك الجبل المقاما

الجبل وما يمثله في الفكر الصوفي :

رمزية الجبل تأخذ شحنة كثيفة لدى الصوفية ، فجبل قاف عندهم يحيط بالكون (17) ويطوقه، ووراءه عالم وخلائق لا يعلمهم إلا الله، يقول باختيار عن جبل قاف في كتابه عن التصوف، إن هذا الجبل يرمز إلى الامتداد اللامتناهي للسماء فهو أصل الكون، ولا يمثل سوى نقطة في اللامتناهي الإلهي، وصعود الجبل يرمز إلى النفوذ إلى المظاهر العميقة للحياة، وفي هذا الارتقاء تكمن القصة التي يحكيها ابن عربي حيث قال : حكي لي شيخي أبو يعقوب الكوفي أن أبا عمران وصل ذات يوم إلى جبل قاف الذي يحيط بالأرض، فصلى في سفحه نافلة الضُّحى، وصلاة العصر في قمته، وعندما سئل عن علو هذا الجبل أجاب ثلاثمائة يوم من السفر.

إن رمز إحاطة جبل قاف بالعالم، كما تجلى في الفكر الصوفي، هو امتداد لما جاء في القرآن عن الجبل ، الذي تنوعت خصائصه ومظاهره بحسب السياقات التي يرد فيها، فهو من ناحية مأوى آمن، ركن حميمي لطيف، وفي آخرى وتد مستقر في مكانه أو مدكوك، أو منفوش (18).

بعد هذه النظرة الموجزة عن الجبل وأبعاده الدلالية، ننتقل إلى مفهوم الخلوة الروحية التي هيمنت عليه .

الخلاء في اللغة المكان الذي لا شيء فيه من بناء ومساكن وغيرهما، والخلو كما يتصور في المكان يتصور أيضا في الزمان ويعني المضي. فقد فسر أهل اللغة خلو الزمان بالمضي والذهاب (19).

في القرآن الكريم : (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) البقرة /75، بمعنى إذا نفرد بعضهم إلى بعض .

وفيه أيضا : (تلك أمة قد خلت ) البقرة /133 ، أي تلك جماعة وجيل قد مضى .

وقال تعالى : (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) آل عمران /119 ، إي إذا خلت مجالسهم منكم عضو أطراف الأصابع من شدة الحنق لما يرون من ائتلافكم .

والخلوة عند المتصوفة : محادثة السر مع الحق بحيث لا يرى غيره، هذه حقيقة الخلوة ومعناها. أما صورتها فهي ما يتوسل به إلى هذا المعنى من التبتل إلى الله .

ذكر ابن عربي أن “الخلوة محادثة السر مع الحق حيث لا ملك ولا أحد سواه” (20).

والخلوة أصلها في الشرع : “من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه”. فهذا حديث إلهي صحيح يتضمن الخلوة والجلوة، وأصل الخلوة من الخلاء الذي وجد فيه العالم (21) .

بعد هذه النظرة عن الجبل في علاقته بالمقدس واستصحابا لمضامينها و إيحاءاتها تنتقل إلى التعريف بالمجال الجغرافي الطبيعي والبشري الذي تقلب فيه مترجمنا الحاج محمد الحبيب، صبيا ومراهقا وشابا وكهلا وشيخا فانفعل به، وتفاعل معه، وفعل فيه. والمتتبع لتفاصيل سيرته الذاتية الغنية يستشف أن بينه وبين مجاله الجبلي من الوجد والود ما يجعل المتتبع ينتهي إلى أن الرجل يقول : هذا مجال أو جبل يحبنا ونحبه. وذلك المجال المؤنسن بهذه الاستعارة الحاملة للبعد الوطني الوجداني هو الأطلس، وبعبارة تخييلية أخرى يمكننا القول أن المغرب بأسره هبة لهذا الأطلس الشامخ، فقد منحه الشيء الكثير (22) “فالخريطة المناخية للمغرب تشهد بكل وضوح على دور قمم سلسلة جبال الأطلس في توفير مقومات الحياة ؛ فهي تصطاد السحب من خلال وقوفها أمام الضغوطات الجوية المنخفضة الآتية من الشمال الأوروبي أو شمال المحيط الأطلنطي، وتبعا لذلك فقد أصبحت هذه السلسلة أكبر خزان مائي للمغرب، ومصدر تدفق جل أنهاره ووديانه … كما أن سلسلة الأطلس تقف صامدة أمام زحف الصحراء، مما سمح بظهور سهول خصبة تمتد من أقدامها إلى الشواطئ الأطلنطية .

فضلا عن الثروات المعدنية التي تحويها السلسلة الأطلنتية. ومن ثم لا غرابة إذا شكلت تلك المنطقة من الناحية البشرية خزانا ديمغرافيا غاية في الأهمية قبل نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، حيث استوطنتها الكثير من القبائل الأمازيغية منذ عهود موغلة في القدم” (23).

وبخصوص مجال تضاريس بيئة مترجَمنا، وهي سلسلة الأطلس الصغير الذي تزيد ارتفاعاته عن 2000 م فمع تطاولها وشموخها، فإنها مخترقة بمنافذ ومسالك وهي بنى تحتية تقليدية سمحت بالتواصل بين ساكنة الفجاج والشعاب والوهاد وساكنة الصحراء، ونتيجة لذلك فإن التشكيلة الاجتماعية للمنطقة جاءت جد متنوعة ؛ حيث نجد تمازجا بين الأمازيغ والعرب والسود، “وأما على المستوى الديني فيلاحظ وجود كثير من الأضرحة لبعض الأولياء ورجال الصلاح، ممن عاشوا بالمنطقة، وأشعوا عليها بفيضهم الروحي، وبموازاة مع ذلك نقع على عدد من المدارس العتيقة ؛ البعض منها يرجع تاريخ تأسيسها إلى القرن 15م. فالمنطقة تمثل بحق نموذجا من الانفتاح الجيد على محيطها، سواء على المستوى الديغمرافي أو الديني (الحضور اليهودي الضارب في القدم). ناهيك عن العامل الاقتصادي القائم من جهة على الإنتاج الفلاحي الذي تغذيه واحات النخيل وتعززه وفرة الفضاءات الرعوية، والقائم من جهة ثانية على الغنى المعدني (النحاس، الزنك، الفضة، الرصاص). فهذا العامل الاقتصادي المتنوع هو المرسخ للأهمية استراتيجية للمنطقة، وهو ما جعلها تحتل أهمية بالغة في التجارة الصحراوية منذ القرن العاشر للميلاد ولغاية القرن 19 م” (24) .

فإذا عدنا إلى مترجَمنا الحاج محمد الحبيب فإننا نجده ينتمي من حيث المكون الديمغرافي للمنطقة إلى قبائل شتوكة، التي تعتبر من القبائل العظيمة السوسية ذات الشوكة (25) التي لعبت أدوار تاريخية أساسية في تاريخ سوس، وقد اعتمد عليها المخزن في نشر نفوذه في كل من سوس الأدنى والأقصى (26) .

ارتأينا تقديم هذا الفرش الجغرافي الطبيعي والبشري بين يدي ترجمة الحاج محمد الحبيب نظرا لأنه يضيء خلفية مختلف محطات حياته المديدة الغنية .

نسبه وتكوينه :

هو الحاج محمد الحبيب بن ابراهيم (27) بن عبد الله بن محمد، ويندرج نسبه في الفنن الإدريسي من شجرة الأنساب العلوية، وهذا المحتذ من مظاهر انفتاح المجال، الذي أشرنا إليه سابقا، حيث نجد نسبه يصطلح فيه كل من الصنهاجي والادريسي العربي (28) وبخصوص قبيلة فهو من آيت ميلك إحدى قبائل هشتوكة، ومن جهة المقام فهو تنالتي الدار، نسبه إلى تنالت إحدى قبائل آيت صواب الهشتوكيين المتربعة في قمة الأطلس الصغير على بعد حوالي 130 كلم من أكادير.

تـكـويـنـه :

“سأله تلميذه البار السيد امحمد فتحا بن أحمد السملالي عن أحواله في ابتداء أمره، وعمن أخذ القرآن والعلوم، وعمن أخذوا عنه من التلاميذ المستفيدين في البلاد السوسية وغيرها، وعمن أخذوا عنه في البلاد الشرقية أخذا وإجازة .

فأجاب بقوله رحمه الله :

“كيف يكون الجواب الحقيقي عن هذه الأحوال والأطوار الطويلة المدى الدقيقة المعنى، الجليلة المغنى، اللذيذ المجتنى ؛ ممن أدبر عن الدنيا وأهلها إدبارا كليا، واستولى كثير النسيان عليه بمرور الأجيال والأحيان، مع توجهه التام إلى الآخرة بخدمة العلم، وكثرة الأوراد، قصد التزود للسفر إلى دار المعاد آناء الليل وأطراف النهار، والرغبة في تزكية النفس، بالرغبة في الخمول والاستتار والكمون، فإن الظهور، كما قيل، يقصم الظهور، ولكن أقول ، كما قيل ، ما لا يدرك كله لا يترك جله .

فأخبر أنه أخذ القرآن الكريم عن المولى الكبير الشيخ محمد بن عبد السلام في حي (إغير ملولن) الهشتوكية الميلكي الصحراوي أصلا، وما تيسر عن الفقيه القارئ محمد بن العربي الأمزالي، وعن الفقيه الحاج علي الهلالي، التوف العزتي، وعن العلامة الكبير السيد أحمد بن آل الأمين التوزويني المشهور، وعن العلامة السيد سعيد المغراوي وعن هذين الأخيرين تم تحصيل ما شاء الله من بعض أصول القراءات، كـقالون والمكي وغير ذلك زيادة على قراءة ورش .

وأما المعارف والعلوم التي تدرس في هذا البلد ، فعن العلامة سيدي العربي بن ابراهيم – زوج أخته – والعلامة السيد الحاد عبد الرحمان البشواري، والعلامة السيد الطاهر بن محمد أزنض في مراكش، والشيخ العلامة السيد محمد السباعي في مراكش أيضا.

والقطب الشيخ ماء العينين في تزنيت مع الإجازة، والمجاهد الأكبر الشيح أحمد الهيبة ابن الشيخ ماء العينين، والشيخ النعمة بن الشيخ ماء العينين أيضا، والشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين أيضا. والعلامة الشيخ جعفر الكتاني المهاجر إلى المدينة المنورة أخذ عنه هناك نحو 1331 هـ 1911م، والشيخ حمدان التونسي أخذ عنه في الحرمين الشريفين، والشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني في المدينة المنورة أيضا. وهذا ما وقفنا عليه من أشياخه إجمالا (29) “.

تحليل النص :

سنتخذ هذا النص مرتكزا لإلقاء بصيص من الضوء على جانب التحمل العلمي من سيرته الذاتية، وهذه عناصره الرئيسية :

1- السائل : طالب من طلبة مترجمنا.

2- السؤال ويتعلق بالمسيرة العلمية للمترجَم.

ج – المسؤول : المترجَم الشيخ محمد الحبيب

د – الجواب.

1- السائل :

هو محمد بن أحمد السملالي، من طلبته الشيخ محمد الحبيب في مدرسته بتنالت، ونستشف من وراء إجازة الشيخ له، إعجابه بجده ومجاهدته والتنويه بذكائه ومواظبته وتفانيه في التحصيل، ولعل إحساس الطالب بهذه العناية والرضا هو الذي جرأه على سؤال الشيخ عن هذا الجانب المسكوت عنه من سيرته الذاتية ؛ والذي لا شك أنه يند عنه استطرادا أثناء هذا الدرس أو ذاك ؛ ترويحا للنفوس وتنشيطا للهمم. قـَصْدُ الطالب من وراء التعرف على سيرته، هو الاستفادة والإلمام بأخلاق الإمامة في العلم والدين. وللتعريف بالسائل نسوق قسما من إجازة الشيخ إياه نظرا لأهميتها فهي تقدم لنا فكرة عن العلوم المتداولة في مدرسة تنال، ونص الإجازة :

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله، يعلم من هذا المرقوم أن حامله العلامة الفهامة السيد محمد بن أحمد السملالي القبيل، طلب منا الإجازة المعلومة عند أهل العلم الأولين والآخرين منهم ؛ الاتصال الأسانيد إلى الحضرة النبوية على خاتمها أفضل الصلاة والسلام، فأجبت وإن لم أكن أهلا أن أجاز فضلا عن أجيز. فأقول : فالمجاز علامة زمانه وأقرانه، وأنه في صُحبتنا أكثر من اثنتي عشرة سنة، كلها في أخذ الفنون العلمية المتداولة في الأقطار المشرقية والمغربية ؟ من تفسير وحديث وفقه وكلام وأصول ، كابن السبكي وغيره، ونحو ولغة وأدب ومنطق وحساب وفرائض وعروض وقوافي ومعان وبيان وعلم ما يحتاج إليه من فن الفلك أجزناه فيها كلها … إلخ (30) “.

ب – السؤال : سأل أستاذه وشيخه الحاج محمد الحبيب عن سيرته العلمية من ابتداء أمره إلى أن أدرك ما انتهى إليه من المجد العلمي و إدراك ومقام الولاية والصلاح . فهو سؤال مبناه وجيز وتحتاج الإجابه عنه إلى أبواب وفصول .

جـ – المسؤول الشيخ الحاج محمد الحبيب والحديث في هذه المقالة إليه بسياق.

د- الجـواب : يمكن تقسيمه إلى قسمين :

1- القسم الأول : يحمل ما يسميه ياكيسون في نظريته التواصلية، بالوظيفة الانفعالية، وتتمثل في نزوع الشيخ ورأيه حول ما سئل عنه .

فالجواب في نظره عن هذه السلسلة من تساؤلات الطالب من الصعوبة بمكان، فالأحوال التي مر بها الشيخ والأطوار التي عاشها متنوعة وعديدة، فالرجل من المعمَّرين، والاجتهاد والجهد الذي بذل فيها بنشاط ومواظبة مجتناه، بحمد الله، مفيد ولذيذ، ثم إن استحضار المجريات والوقائع مقترنة بضبط زمانها ومكانها مما استولى عليه النسيان، ومما زاد ذلك طيا وامحاء أن الرجل لم يقصد بعلمه طلب المعاش والتطلعات الدنيوية، بل همه من ذلك حرث الآخرة ؛ بخدمة العلم وتزكية النفس، والرغبة عن الظهور بإيثار الخمول والاستثار، وبما أن سؤال الطالب من باب الأسئلة المباحة، القصد منها التأسي فسيشير الشيخ إلى بعض المحطات، وكما قال : فما لا يدرك كله لا يترك جله. هذا فيما يخص القسم الأول من الجواب.

2- القسم الثاني : يتعلق بالإشارة إلى نخبة من مشيخته العلمية، وهنا سنفتح النص على نصوص أخرى مغنية.

حكى تلميذه العلامة موحتاين الحاج عبد الله أن الحاج محمد الحبيب استوقفه أثناء قراءته عليه للأنوار القدسية للشعراني قال له : “إنني حين كنت صغيرا، استيقظت ذات يوم عند صلاة الفجر فرأيت الوالد يدعو لي أنا وأخي الشقيق الطيب . يقول في دعائه : اللهم اجعل هذين الولدين من علماء الآخرة، ولا تجعلهما من علماء الدنيا، فواجهته الوالدة بشدة ، وقالت ونصيبهما في الدنيا، فقال لها إني أريدهما للآخرة ، فمازالا كذلك حتى اتفقا علينا أنا وأخي الطيب بأن يجعلنا الله من علماء الآخرة، وأضاف قائلا ومن المعلوم أن دعوة الوالدين للولد مستجابة، وذلك ما ترى من عزوفي عن الدنيا والاستمتاع بها ” (31).

نص جميل يكشف عن الحوار بين الزوج وزوجته في مسألة تربوية تتعلق برؤيتهما لمستقبل الأبناء، فمن شدة إنكار الأم لرأي زوجها الذي أراد ابنيه للآخرة، ورأيها الجامع بين الدنيا والآخرة، إلى إفضاء الحوار بينهما إلى أن يمحضهما الله للآخرة. وقد علق موحتاين عن عزوف أستاذه عن الدنيا بقوله : “يشير والله أعلم إلى العزوف عن الزواج، وقـــد أنالهما الله من الدنيا ما ينالان بــــه الآخرة (32) ” .

ونص الإجازة يشير إلى المشيخة التي قيض الله له بها تحقيق رغبة الوالدين، ويمكن تقسيمها إلى قسمين : مغربية بشقيها البدوي والحضري، ومشيخة مشرقية. وقد اتبعنا في هذا التقسيم قول الحاج الحبيب في إجازة لأحد طلبته : “فليعلم أن المتمسك بهذا المرقوم – الإجازة- يطلب من راقمه بإجازة مسموعاته ومروياته عن أشياخه الشرقيين والغربيين الحضريين والبدويين فأسعفته (33).

1- مشيخته البدوية :

– متلقاه للقرآن : أخذ القرآن الكريم عن الشيوخ الأفاضل : محمد بن عبد السلام الهشتوكي الملكي الصحراوي، والفقيه القارئ محمد بن العربي الأمزالي، والفقيه الحاج علي الهلالي، والعلامة الكبير السيد احمد بن محمد بن (ءال الأمين) التوزيني، والعلامة السيد سعيد المغراوي، وعن هذين الأخيرين حصل ما شاء الله من أصول القراءات زيادة على قراءة ورش، وقد تم له حذق كل ذلك سنة 1314 هـ ثم اتجه لأخد بقية المعارف من علماء وقته .

– متلقاه للمعارف في مشيخته البدوية : عن سيدي العربي بن ابراهيم زوج أخته

– الحاج عبد الرحمان البشواري ().

ب : مشيخته الحضرية وشبه حضرية :

1- في مراكش أخذ عن :

– الحاج الطاهر محمد أزنيط المراكشي (ت 1317 – 1899م).

– محمد بن ابراهيم السباعي العكرومي (ت 1332 هـ – 1913م).

2- في تزنيت : التي أذن السلطان المولى عبد الحفيظ ( 1907-1912) للشيخ ماء العنين أن ينقل إليها مركزه العلمي بعد أن استولى المستعمر الإسباني على اسمارة سنة 1910.

– الشيخ ماء العينين (ت 1328 هـ /1910م)

– الشيخ أحمد الهيبة بن ماء العينين :1294 هـ/1875م – 1338/1919م

– الشيخ النعمة بن الشيخ ماء العينين

– الشيخ مربه ربه بن الشيخ ماء العينين وهو الشيخ محمد المصطفى الملقب مربه ربو – 1298 هـ /1880م – 1361 هـ / 1942 م

ج- من مشيخته المشرقية : جمع في رحلاته الحجازية الثلاث بين أداء المناسك والتعرف عن كثب عن أمور المسلمين وتحمل العلم، فممن أخذ عنهم :

– العلامة محمد بن جعفر الكتاني ( 1274 هـ /1857م – 1346/ 1926) المجاور في المدينة المنورة، أخذ عنه هناك في حجته الأولى حوالي سنة 1331 هـ – 1911.

– الشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني (1266 هـ / 1849- 1351 هـ / 1932م) سيوطي زمانه أخذ عنه في نفس الحجة في المدينة المنورة .

– الشيخ عمر حمدان التونسي أخذ عنه في الحرمين (35).

يقول المختار السوسي : “هؤلاء أشياخه في العلوم بالأخذ والإجازة، ولعل له آخرين لم نتصل بأسمائهم” (36). وقد تولى العلامة موحتاين ترجمة بعض أشياخه ترجمة مفصلة في المبحث الثالث من الفصل الأول في كتاب الرتائم.

وقد عدلنا عن التعريف بأولئك الأعلام، إذ لو ترجمناهم لآل المقال إلى كتيب أو كتاب، وعلى كل حال فإن ما يجمعهم زمانيا مغاربة ومشارقة هو القرن الثالث عشر و الرابع عشر الهجري التاسع عشر والعشرين الميلادي. ومما يؤلف بينهم هو هم نشر العلم وتبديد الجهل والاهتمام بأمر المسلمين في فترة زمانية تسلط فيها المستعمر على الشعوب المستضعفة ومنها الإسلامية. فمن أولئك الأعلام من تسلسل النضال في أسرهم، كما يقال، بالسيف والقلم كأسرة ماء العينين ، ومنهم من اكتفى ببث العلم واستنهاض الهمم، ومنهم من استنكف من رؤية المستعمر في بلاده فهاجر إلى المدينة المنورة واستوطنها وكتب في مناصحة أهل الإسلام، وآخرون أهمهم التساؤل عن أسباب تقدم الغرب وتأخر المسلمين ؟ ففي هذه البيئات التربوية تحمل الشيخ محمد الحبيب العلوم، ولا شك أنها ستبصمه ببصمتها .

نعم، لقد فتح الشيخ رحلاته على عدة واجهات ؟ دينية وعلمية وتربوية وسياحية استطلاعية تعرف من خلالها على القضايا العامة للمسلمين. “كان رحمه الله يحكي أنه أثناء زيارته لاستنبول عاصمة تركيا عزم على مغادرتها إلى الوطن، فاقترح عليه أحد أصدقائه أن يؤجل الرحيل أياما ؛ نظرا لأن مؤتمرا عالميا سيعقد هناك، فانتظر الشيخ أياما، وانعقد المؤتمر العالمي لدراسته أحكام السيطرة على العالم الإسلامي، وكان صديق الشيخ قد وعده بأن يزوده بنتائج المناقشات التي ستدور في المؤتمر ، وقد حضر كابر قومهم إلى المؤتمر، فأكد أنه يجب على المؤتمرين أن يضعوا للمسلمين في طريقهم حجر عثرة يلهيهم، فإن هم تغلبوا عليه فإنما حجرة عثرة، وإن هم تعثروا به فذلك ما كنا نبغ، فانقضى المؤتمر على هذا الأساس، والمقصود بهذا الحجر هو دولة اليهود، وارتحل الشيخ ووصل إلى دمشق فصادف صلاة الجمعة في أحد المساجد بها، ووجد إماما نحيف الجسم تكاد أصابعه أن تمحي، فخطب الناس خطابا قصيرا، ووعدهم أثناء الخطاب أنه سيلقي درسا إثر الصلاة، وعند الفراغ من الصلاة قام الخطيب إلى المنبر، فأخبر الحاضرين خبر المؤتمر، وأضاف أن المؤتمرين اتفقوا على محو الإسلام ؛ وذلك بشق صفوف المسلمين بالسياسة، فحك الخطيب اصبعيه السبابة والإبهام. كان ذلك سنة ألف وثلاثمائة وتسعة وعشرين أثناء حجته الأولى. قد أكد الخطيب على الحاضرين أن يبلغوا ما سمعوا منه إلى المسلمين، كل واحد حيث انتهت به رحلته” (37) .

كـفـاحــه :

عاش في لحظة اتسمت دوليا بانتقال الرأسمالية الأوربية إلى مرحلة الامبريالية، وما أعقب ذلك من تحولات في العلاقات الدولية، وما نجم عن كل ما تقدم من الهيمنة الأوربية على الشعوب المستضعفة أو المتخلفة بدعوى تحضيرها ومساعدتها على الالتحاق بالركب الحضاري، ولا غرابة إذا أعلن المعتدى عليه الجهاد ومقاومة الغزاة الدخلاء، وقد حملت المراكز العلمية هم هذه الحركة المناهضة إلى جانب العناية بالتربية والتعليم، فالشيوخ الذين تلمذ لهم الحاج محمد الحبيب اصطلح في مسلكيتهم العلم والورع والمجاهدة والجهاد. لقد كان لمدرسة الشيخ ماء العينين أثرها العميق في تكوين شخصية مترجَمنا إلى حد أن حياته المديدة تعكس بحق المراحل التي مرت بها المدرسة. لقد كانت كل من اسمارة وتزنيت، فيما بعد، مركزا علميا في الجنوب المغربي له خصوصيته، كما اشتهر بتمسكه بالوحدة الوطنية و مقاومة المستعمر، فأسرة الشيخ ماء العينين من بين الأسر المغربية التي وقفت في وجه الاحتلال الأجنبي للمغرب وقاومته بالعلم والسلاح .

يقول العلامة موحتاين الحاج عبد الله : “لما رفرفت أعلام الجهاد، وسمع الحاج محمد الحبيب – الصيحة وهو مشارط في بعض المدارس، طار بنفسه فورا تواقا إلى أداء الواجب، فإذا به مع شيخيه سيدي مولاي أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين سنة 1330 هـ – 1912 م يتقدم الفرسان الهشتوكيين، ومن العلماء السوسيين الذين كانوا مع أحمد الهيبة، الأستاذ محمد أعبوا، والفقيه سيدي محمد بن أحمد الأكراري، والأديبان الكبيران سيدي الطاهر الأفراني، وسيدي الباشا الناصري، وبالجملة فإن الذي اتصل به من الهشتوكيين الكبار هو السيد الحاج محمد الحبيب، وهو الذي صبر مع الشيخ أحمد الهيبة ولم يفارقه في السراء والضراء، ومع خليفته الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين إلى نهاية سنة 1352 هـ موافق 1933 ؛ حيث داهم الاحتلال كل جبال سوس ولم يفارقه منذ تخرج 1322 هـ موافق 1904م إلى أن التحق بالرفيق الأعلى ، وهو مشمر عن ساقه مرابط محق لما هو بصدده (38).

وقد كان شيخه أحمد الهيبة يقدره، ويعهد إليه بمهام خطيرة يقول الحاج محمد الحبيب : “كنت مستشارا لأحمد الهيبة في الفقه ؛ نظرا لما كان يراه لي من مكانة علمية ولمكانتي في قومي (اشتوكن)، ولكوني أترجم له من السوسية إلى العربية، بالإضافة إلى معرفتي بالأوضاع العامة، إلى أن قال : وأضاف إن أول قضية عرضت عليه وهي “محلة” الهيبة عندما كانت في طريقها إلى مراكش، نزلت في بلاد مزوضة، فإذا بأعرابي من أولاد مطاع ثبتت عليه سرقة، فنادى الجميع بتطبيق الآية (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) فوقعت في حرج. فالمحلة مقبلة على معارك ضد النصارى، ونحن بحاجة إلى جمع الشمل، ومن المنتظر إذا طبقنا حد السرقة تنفضُّ عنا قبيلة السارق، أو أن يستغل الخصوم ذلك ضدنا، لكن المحلة نفسها تنادي بقطع اليد، فأفتيت في ذلك الوقت، بأن تنفيذ حد السارق سهل، لكن نظرا لوجودنا في مكان خال من وسائل العلاج والطب، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى موت السارق والاحتياط واجب. وبما أننا مقبلون على مراكش حيث الإمكانيات فإلى هناك ، فانطفأت الانتفاضة، وزاد في ذلك تنازل من سُرق عن حقه.

ثم قال : كنت أرجو من الله أن ينتهي أمر هذا السارق على غير يدي ، فإذا به فعلا قتل في المعرفة في سيدي بوعثمان ضد الحملة الفرنسية. فكان في ذلك فرج ومخرج” (39).

سنقف عند هذه الفقرة نظرا لأهميتها التاريخية :

تدخل معركة سيدي بوعثمان1912 ضد التدخل الأجنبي، في إطار المرحلة الجهادية لأسرة ماء العينين التي تمتد من سنة 1910 ، السنة وفاء الشيخ ماء العينين، إلى سنة 1933 ، ومن ثم فليست هذه أول حركة جهادية تخوضها فلول ماء العينين ضد الغزاة، فقد سبق لها أن هبت من مركزها العلمي باسمارة لتطهير بعض الثغور الجنوبية من الوجود الاستعماري في كل من الداخلة وطرفاية وتندوف، ونعتقد أن مترجمنا قد خف للمشاركة في هذه المعركة أو تلك، وهو طالب في الزاوية. وعلى كل حال فإن اعتماد أسرة ماء العينين على وسائلها الدفاعية التقليدية، وتآمر بعض الخونة لم يسمح لها بكسب معركة سيدي بوعثمان. يقول المؤرخ ألبير عياش عن سبب إخفاق الهيبة في هذه المعركة. ” قبل قواد الجنوب الكبار أسياد الأطلس (الكلاوي، الكندافي، المتوكي) بخدمة السلطات الاستعمارية ؛ لقاء تقوية سلطتهم وحرية ممارسة تعدياتهم ؛ وبذلك تمت السيطرة على الأطلس الكبير الشرقي وسهل سوس بسرعة، وكذا حمايتهما من الهجمات المتكــــررة للــرحل بقيادة الهيبة” (40).

ونختم هذه الفقرة بنص يتحدث عن مقاومة ساكنة الأطلس وشجاعتهم واستماتتهم في الدفاع عن أرضهم “لقد تابع الفلاحون والرعاة وحدهم بالأطلس نضالهم من أجل الحرية. وقد تميزوا بشجاعتهم واستماتتهم، كما أبانوا عن روح هجومية ممتازة، واستطاعوا بنجاح استعمال وعورة جبالهم التي يعرفون مسالكها وخباياها جيدا، لتعويض مستوى تسليحهم المتدني، فكانوا يهاجمون ويناوشون باستمرار، تجريدات وقوافل الجيش ونقط الحراسة، ويضاعفون من الكمائن والضربات، ولم يترددوا حين كانت تسمح الفرصة بذلك في الارتماء على الفيالق المنظمة المتحركة وقد قاوموا رغم الحصار إلى آخر رمق” (41).

تعتبر سنة 1352 هـ – 1933م نهاية للمقاومة الجبلية، وتولي المدن لنوع من المقاومة السلمية المتمثلة في المعارضة السياسية وحركة المطالبة بالإصلاحات. أما بالنسبة لمترجمنا الحاج محمد الحبيب فتعتبر تلك السنة بداية لمطاردة المستعمر له، وتتبع حركاته وإحصاء أنفاسه، مما اضطره إلى الهجرة إلى آيت باعمران. يقول المختار السوسي عن الحاج محمد الحبيب ” كان يتردد على الهبة، وعلى خلفه بعده مربيه ربه إلى أن كان ما كان سنة 1352 هـ – 1933 م قدهم الاحتلال كل جبال سوس، فهاجر ثانيا إلى بعمرانة مستخفيا، ثم لم يرجع من هناك إلا بعد حين، فضرب بجرانه في تانالت (42)”.

بعد معاناته لكثرة الترحال وتكبد عناء الأسفار وتقدم صفوف الحركات، عاد من أيت باعمران مأذونا له من قبل شيخه بالاستقرار في تنالت، كان استقرارا مشوبا بكثير من الحيطة والحذر، فقد أخذت السلطة الاستعمارية تتقرب إليه وتخطب وده، وتعرض عليه من الريع والمناصب والامتيازات ما تتحلب له شفاه كل طامع لا هم له إلا ما يدخل في بطنه وعندما وجدته غير متشوف لعروضها، ماقتا لصنيعها ضاربا بما رأته حسنا عرض الحائط، قلبت له ظهر المحن ليعاني من المضايقات والمراقبة والخضوع للأبحاث وتحرير التقارير “بل خصصت له السلطة الاستعمارية سجلا خاصا به بمركز تنالت، سجلوا فيه ملاحظاتهم مخطوطا بخط فرنسي رأيناه ولم تمكن نقله” (43).

عمارته للعلم بمدارس جزولة انطلاقا من مركز تنالت :

فإذا كانت قوة الاحتلال قد تمكنت سنة 1933 من بسط نفوذها على الأطلس، فإن الوقائع التاريخية تثبت أن ذلك الاحتلال لم يتجاوز السطح الذي أثقلته بمراكز المراقبة، وتتبع ومراقبة الحركات الجهادية، أما العمق – الساكنة – فلم تستطع النفوذ إليه وتطبيعه وتطويعه للاطمئنان إليها وخدمة مصالحها، ومن ثم فلا غرابة إذا دخلت زاوية ماء العينين في الأطلس الصغير ومشارف الصحراء مرحلة جديدة من المقاومة، وهي التركيز بالدرجة الأولى على التربية والتعليم، فإذن شيخها آنذاك للحاج الحبيب بالالتحاق بمركزه العلمي المعهود في تنالت، فقد أضحى التعليم في تلك الفترة، ترسا وجنة واقية من مسخ الهوية، ومحافظا على المقومات الدينية والوطنية .

يقول المختار السوسي : “كان العلامة الجليل الشيخ البركة النفاعة الصالح المدرس طوال عمره، الحاج محمد الحبيب، من طبقة كانت تخب وتضع في عمارة مدارس جزولة . فقد كان العلامة الحاج مسعود الوفقاوي، والأديب الكبير شيخنا سيدي الطاهر الإفراني، وابنه سيدي محمد ، والإمام الصوفي سيدي أحمد بن مسعود المعدري يجدون في ملازمة التدريس، ثم انقرضوا فلم يبق من بعدهم إلا الحاج محمد الحبيب الذي لا يزال يستفرغ جهده في الإنكباب على التدريس، لا شغل له ولا همة إلا في ذلك، فلا مال ولا أولاد ولا تشوف إلا نفع الطلبة ؛ تعليما وإعانة وتهذيبا وتموينا ، فاستطاع بذلك أن يملأ فـــراغا يكــــاد يخلو لولاه (44)”.

لقد استفاد الشيخ الحاج محمد الحبيب أثناء تحمله ورحلاته العلمية، من مناهج وطرق المدرسة المغربية بدويها وحضريها، وأضاف إلى ذلك خبرته بأساليب التربية والتعليم في المشرق، ولهذا لا غرابة إذا اتسمت ممارسته التربوية ببعض الخصوصيات. وسنكتفي بالوقوف عند مستويات مدرسته، وأصناف العلوم التي تدرس بها. والمصادر المعتمدة في كل علم على حدة، لنخلص بعد ذلك إلى خصوصيات مركز تنالت العلمي.

فمن حيث المستويات احتضنت مدرسة تنالت ثلاث مستويات : المبتدئين والمتوسطين والمنتهين . ويتعامل الشيخ مع كل مستوى بما يراه مناسبا له ؛ سواء من حيث مقرراته من الأمهات، أو طرق التدريس. فطريقته مع المبتدئين، على سبيل المثال “قائمة على شرح المتون وإلقاء الضوء عليها بصفة مختصرة، وبدون إطالة في الشرح، مع الحوار والمساءلة … وكان رحمه الله ، يهتم بالمبتدئين أكثر من غيرهم، ذلك أنه يتفادى مللهم ونفورهم، مما قد يؤدي إلى فشل الطالب في دراسته، وهكذا تستخدم طريقة التدرج انطلاقا من قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ” إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولين، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى “(45) .

“وبالنسبة للمتوسطين فإنه يندرج معهم في الشرح، وينتقل بهم إلى الاستشهاد، وضبط القواعد بالشواهد والأدلة، كما أنه يمرن الطلبة على تطبيق القواعد على الأمثلة خارج درس القواعد، وذلك إثر تلاوة الحزب بإعراب آيات منه، وتصريف الكلمات وذلك بتطبيق قواعد الصرف ” (46).

أما المنتهون فطريقته معهم “هي الدراسة بعمق وبحث، فيناقش الطلبة، ويستوقفهم وينقب ويحضر المراجع من خزانته الغنية، ويمرن الطلبة المتفوقين على مراجعة الدرس جماعيا قبل إلقائه هو”. (47)

الأمهات المقررة في مختلف العلوم، نذكرها مجملة من غير تصنيف لها تاركين الأمر للقارئ، فالبسيطة للمستوى الأول والمتوسطة للثاني والضاربة في العمق للثالث .

1- النحو :

مقدمة ابن آجروم، والزواوي، والجمل للمجرادي، ولامية الأفعال في التصريف.

ثم ألفية ابن مالك بالبهجة للسيوطي، والألفية بشرح الأشموني والمكودي، وابن حمدون، وابن عقيل، والتصريح للشيخ خالد الأزهري، والتوضيح لألفية ابن مالك لابن هشام، وطبقة يخصها بالتسهيل لابن مالك.

2- الفقه :

المرشد المعين لابن عاشر بشرح ميارة الصغرى، وشرح الأدوزي السملالي، والمقدمة العشماوية، ورسالة ابن أبي زيد القيراوني بشرح أبي الحسن وخاشية العدوي، ومختصر الشيخ خليل بشرح الدردير وخاشية الدسوقي مع الاستئناس بشرح الخرشي والحطاب وغيرهما، والتحفة لابن عاصم بشرح التاودي والتسولي، والزقاقية بشرحهما.

3- الأصــول :

بورقات إمام الحرمين، ومنظومة للشيخ ماء العينين، وجمع الجوامع لابن السبكي، وقواعد المذهب المسمى المنهاج بشرح اليعقوبي وتكميله .

4- المنطق :

السلم منظومة للأخضري، ورسالة إيساغوجي.

5- علم التوحيد : الصغرى، والكبرى، وصغرى الصغرى للسنوسي.

6- العروض :

الخزرجية بشرح الزموري، ونعت العروض للشيخ ماء العينين، واللامية للرسموكي، والكافي للدمنهوري .

7- الحساب :

السملالية وشروحها للسملالي، والفرائض بمنظومة الرسموكي بشروحها الثلاثة الصغير والكبير والمتوسط، والتوقيت بالمقنع للمرغيتي، والتوقيت بالددسية.

8- البلاغة :

بالاستعارات للشيخ الطيب بنكران، تلخيص المفتاح، وشرح السعد النفتراني، وشروحها الخمسة المجموعة في أربع مجلدات، والجوهرة المكنونة .

9- تفسير القرآن الكريم :

بالجلالين وحاشية الجمل، ويحضر عند الدرس روح البيان، وروح المعاني، والبحر المحيط لأبي حيان، والخازن، والبيضاوي والكشاف. يضع هذه التفاسير بين يدي الطلبة المتميزين، يقرأ النصاب بربع الحزب أو ثمنه عن ظهر قلب. ويفسره على حسب حفظه لغة ومعنى، ثم يبحث في القضايا المتنوعة بالرجوع إلى مصادرها الموجودة بين يدي الطلبة، وينتهي الدرس بقراءة النصاب جماعة.

وإذا ختم القرآن يقيم له حفلة عظيمة بذبح بقرة ، وتخصيص ثلاثة أيام للأكل والشرب وهذه المناسبة السعيدة لا تقتصر على الطلبة وحدهم بل تعم القرية بأسرها .

10- الحديث :

صحيح البخاري بتفسير القسطلاني، ويحضر معه فتح الباري ومقرر العلامة الدمناتي ومع الكرماني، وحديث مسلم بشرح الأبي وشرح النووي، والشفا للقاضي عياض بشرح سيدي على القارئ، والموطأ للإمام مالك بشرح الزرقاني، وحديث الشمائل بشرح الشيخ جسوس والباجوري.

11- الأدب واللغة :

المقامات للحريري بشرح الشريشي ولامية العرب للشنفرى، والمعلقات السبع بشروحها، والشمقمقية، ولامية العجم للطغرائي، والدالية لليوسي، ومثلث قطرب للرسموكي، والهمزية والبردة للبوصيري، وبانت سعاد لكعب بن زهير، والوتريات للبغدادي. (48)

12- التصوف : الحكم لابن عطاء الله، والإحياء للإمام الغزالي وغيرهما .

خصوصيات مدرسة تنالت :

1- مقرراتها منسجمة بعضها آخر برقاب بعض، فمقررات الابتدائي تفضي إلى المستوى المتوسط فالمستوى النهائي .

2- طرق التدريس قائمة على التشويق والحوار والمساءلة والتشجيع، وفي المستوى النهائي يحضر الاستشكال والنقد، واستشارة المصادر. وعلى سبيل المثال نشير إلى نقده للمنجد الذي أصدره الأب لويس المعلوف عام 1908 لأول مرة، والذي هو معجم الطلاب، وتوجيههم إلى اعتماد المعاجم الأصيلة، كالقاموس وتاج العروس، ولسان العرب. وبالمناسبة يحيلهم إلى نقد الكاتب عبد الستار فراج للمنجد. (49) ولعله قد استفاد هذا المنحى في التدريس من خلال قراءته لمقدمة ابن خلدون.

3- اختصت المدرسة في علم النحو بتقارير السيوطي على الألفية. فهذا الأستاذ ابراهيم بن أحمد اللامسكيني تلميذ الشيخ محمد الحبيب يقول : “التحقت بمدرسة تنالت وقد كنت ملما بعض الشيء ببعض مبادئ العربية، فأصبحت بذلك أشبه ما يكون برحم معدة لاستقبال واحتضان معلومات وأفكار من نوع آخر . لقد وجدت في المدرسة الدراسة والتعمق في الدراسة . لم تقع عيني إلى الآن على من يحفظ تقارير السيوطي على ألفية ابن مالك في النحو إلا في مدرسة تنالت لا بقصد الحفظ، ولكن من كثرة الممارسة والمراجعة، وجدت الدراسة والاستنباط والنقد في آن واحد ودراسة النحو بعمق”. (50)

4- لم تقتصر المدرسة على الأمهات المقررة، بل انفتحت على المطالعة الموازية في أعمال أخرى، منها ما انفردت به المدرسة ولم تشاركه فيها بقية المدارس كأعمال العلامة الشيخ يوسف اسماعيل النبهاني وليد حيفا ودفينها. “وقال شيخنا الحاج محمد الحبيب بلغت مؤلفاته أربعة وستين مؤلفا ما بين مجلد ضخم وأجزاء وكتيب ورسائل. فقد عمت الشرق والغرب، وفي الحقيقة فإن الشيخ هو الذي أدخل كتبه أولا إلى المغرب من قبل أن تعرف فيه وعممها بين طلبته (51)”.

كما كان يخص بعض الطلبة بقراءة كتب معينة طبقا لميولاتهم، فمنهم من خصه بقراءة زاد المعاد لابن قيم الجوزية، أو شرح المرتضى لإحياء علوم الدين، أو ظهر الإسلام لأحمد أمين، أو تنبيه المغتربين للإمام الشعراني، أو الطبقات الكبرى للشعراني، والأخلاق المتولية المفاضة من الحضرة المحمدية ” وهو كتاب مخطوط للشعراني : والمجلد الأول من ظلال القرآن للسيد قطب، وديوان الشيخ النبهاني، وديوان الشيخ الجشتيمي مخطوط (52).

5- الترويح عن الطلبة من جهد الدرس ومعاناة صعوبة القضايا العلمية بألوان من الطرف التربوية الهادفة، كحكاية المناسب للمقام من سيرته الذاتية، يقول الأستاذ جهادي الحسين البعمراني : “لما كان سيدي محمد الحبيب قد اعتكف على التدريس، فإنه أهمل التأليف، حسب ما نعلم، فاكتفى بسرد الأحاديث المرتبطة بحياته شفويا كلما سنحت له فرصة، سواء مع تلامذته أو مع جلسائه” (53) من ذلك حديثه عن مولده ونية والده فيه، أثناء قراءة كتاب الأنوار القدسية للشعراني بين يديه (54)، وحكايته لأحد تلامذته عن نازلة حركة سيدي بوعثمان الحرجة. وكيف تخلص منها، وإكراميات ملوك الدولة العلوية لعلماء المشرق (55). “وكان إذا وصل إلى بعض أنواع الأكل في كتب الحديث أو اللغة تحدث أثناء شرحها عن الكيفية التي تعالج بها، وإذا كانت لا توجد بالمغرب تحدث عن مشاهدته لها في الخارج أو في البلاد التي سبق له أن زارها “(56).

وبما أنه اصطلح في تكوينه العلوم الشرعية واللغوية والأدب ونظم القوافي، فقد كان يطرز دروسه بالاستشهاد بالمناسب من الأشعار، وقد ينظم نتفا شعرية مناسبة للحالة النفسية والتعليمية لهذا الطلب أو ذاك، تشجيعا أو تنفيسا أو تنبيها أو تبكيتا، يقول الأستاذ جهادي الحسين ” ذكر لي أحد طلبته أنه أصلع له على ديوان شعر جمعه له تلميذه سيدي بعلا بن الحسين التوريوني الصوابي فقيه مدرسة إداوْمَنـُّو حاليا … نعم سمعت أن له مذكرات وإجازات من علماء كبار، لكن ضاع منه بعض ذلك، هذا وقد طرق سمعي أن بعضا من ذلك عند عائلة الأشكوريين البعمرانيين في (مستي)، كما كتب في كفاحه بعض الفقرات (57).

6- إذا كان المستعمر قد اعتبر مناطق الأطلس متميزة لغة وأعرافا وعادات، وأن لا علاقة لها ببقية المدن الداخلية العربية أو المعربة ، استنادا إلى المقولة الاستعمارية فرق تسد وتبعا لذلك فقد حرص كل الحرص على الحيلولة بينها وبين لغة القرآن وأحكام الشريعة، وثقافة الإسلام وحضارته، وحيث كان ذلك مكره، فإن المدارس العتيقة في تلك المناطق الأطلسية ردت كيد المستعمر وتحدته وعضت بالنواجذ على التراث الإسلامي الذي آل إليها أبا عن جد. ومن أساليب رد مدرسة تنالت في التوعية والرد على المستعمر انتهاز الشيخ للمناسبات الدينية، بل خلق مناسبات أخرى من طبيعة علمية ؛ لفتح مؤسسته على عالمها الخارجي من القرى والمداشر ؛ للتوعية وترسيخ المقدسات والثوابت.

فمن أحواله في رمضان أنه يختم الحديث في 22 أو 23 منه “وعند الختم يعرف الناس ذلك، فيسأل بعضهم بعضا في الأسواق، وفي المدن المجاورة، وبعضهم يأتي من وجدة وطنجة والرباط والبيضاء وغيرها من المدن لحضور الدعاء عند ختم حديث البخاري. يجتمع المئات من الناس في جو لا يمكن تصوره، ويهيئ لذلك من الإكرام أضعاف أضعاف ما هو معتاد عنده ؛ بذبح البقر والغنم، مع ما يأتي به الناس من الهدايا، وفي حالة ختم الدعاء بعد قراءة الكلمتين اللتين ختم بهما البخاري كتابه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) يقرؤونها جماعة بعدد لا يقل عن سبعين، ويقرأ الشيخ أدعية كثيرة، وأكثرها مروية في جو من الخشوع ورقة القلوب” (58).

وفي مثل هذه المناسبات يعظ الشيخ الحضور، ويجيب على أسئلتهم ونوازلهم، ويلاطفهم كل على حسب حاله وبلده. فرحلاته سمحت له بمعرفة أحوال البلدان داخليا وخارجيا. أما أحواله في العيد “فهي أحوال يعجز عنها الوصف، من إكرام الطلبة، وإدخال السرور عليهم. ويجتمع لديه صباحا سكان تلك المداشر المجاورين مبكرين ويسلمون على الشيخ مع الطلبة، وقد هيأ لهم ما يفطرون به بحضوره، ويقرؤون معه أنواعا من الأذكار، ويخرج معهم إلى المصلى، ويصلي بهم صلاة العيد إماما، وإذا انتهوا من صلاة العيد، يرجع الطلبة وحدهم مع الضيوف، حيث يجدون أنواع الأكل وشرب الشاي، ويبقى ذلك الإكرام الحافل أسبوعا كاملا، كل من جاء يأكل ويشرب. أما الطلبة فكلما اجتمعوا للفطور والغداء وبعد العصر والعشاء يقرؤون في التفريق والمصحف يخرجون خمس سلكات نظرا لكثرتهم، ويقرؤون إثر ذلك ما شاء الله من الأمداح النبوية، البردة والهمزية للبوصيري، ولا تفوتهم المذاكرة فيما بينهم في كل أنواع الفنون، وبعضهم يسرد كتابا على بعض، ويتناقشون في مسائل، ويستعرضون القصائد التي يُنشؤونها وغير ذلك من الأبحاث العلمية (59)”.

ففي مثل هذه المجالس التواصلية السارة : تسرد السيرة النبوية وفي فقهها تعريض بالمستعمر، وتعطر بقراءة الشمائل المحمدية، وتبسط العقائد، وتستوعب أحكام الشريعة السمحة، وتلين القلوب وتذرف العيون بفعل الخطاب المؤثر القائم على شرح أحاديث أبواب الرقائق. فيزدان إيمان الحضور ويزداد ويستنكره الكفر والفسوق والعصيان، وفي ذلك رد – لك أن تعتبره مباشرا أو غير مباشر على مكر المستعمر ودسائسه.

7- المقصد الأسنى من الدراسة في معهد تنالت قائم على التوليف والانسجام بين الحقيقة والشريعة. فلا ينحدرون بالعلم إلى درك المعاش الدنيوي وما يدخل في البطن، بل يسخرونه لمعنى أسمى وهو الشفوف الروحي وطلب الآخرة. “فمن المعلوم أن الحاج محمد الحبيب شيخ من مشايخ الصوفية الصادقين، وأنه قطب من أقطابها، فكما تخرج على يديه عشرات العلماء، فقد تربى على يده أيضا كثير من المريدين، فهو ملقن العلوم الدينية والروحية، كما أنه طبيب القلوب، فهو يهذب الارواح كما أنه ينمي العقل ويصقله، وبذلك قد جمع بين الحقيقة والشريعة، وقرن بين الظاهر والباطن. فهو لا يهذب الروح على حساب العقل، ولا يهمش العقل على حساب الروح، وسطية في التربية مرجعيتها قوله تعالى : ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا ” سورة البقرة /142. ولهذا فإن إدراك الشيخ إدراك روحي، وهو الإدراك الحقيقي للحياة وفلسفتها وهدفها والمغزى منها، ولا يكون ذلك إلا بصفاء الروح (60) “.

خـاتـمة :

تلك نظرة عن الجبل ودلالته اللغوية التي راعت مستويات المرتفعات عن سطح الأرض، وخصت كل مستوى بما يناسبه من الألفاظ واعتبرت الجبل أعلاها. وواشجت بين الجبل والإنسان عن طريق الاستعارات التي نحيا بها : فقيل للرجل العظيم في قومه إنه جبل.

وتطرقنا إلى كسموغرافية الجبل المقدس من خلال كتاب عجائب المخلوقات للقزويني الذي أفرد فصلا قائما بذاته لفوائد الجبال وخواصها وعجائبها : ومنها أنه لو تكن الجبال لتعذرت الحياة على وجه الأرض، ومن تعليلاته أنها الموفرة للماء العذب الزلال الذي هو مادة حياة النبات والحيوان .

واستصحابا لتلك العلاقة التي نسجها الإنسان مع الجبل وكراماته استحضرنا الأطلس، واعتبرنا المغرب هبته يشهد لذلك خريطته المناخية والجيولوجية والديمغرافية لننعطف بعد ذلك إلى الأطلس الصغير. منشأ ومربى ومجال نضال مترجمنا الحاج محمد الحبيب. فتتبعنا تكوينه من خلال مشيخته المغربية بدوية كانت أو حضرية، وكذا مشيخته المشرقية، وبهذه الرحلات العلمية وصل الخلف بالسلف؛ وربط المغرب بالمشرق.

وبما أن اللحظة التاريخية التي عاش فيها مترجمنا استعمارية، فلا غرابة إذا اقترن تحمله للعلم في مدرسة ماء العينين بالمجاهدة والجهاد، فترأس قبيلته هشتوكة في عدة حركات من حركات ماء العينين ؛ بدءا من معركة سيدي بوعثمان إلى ملاحم الأطلس الصغير التي أبان فيها ساكنة المغرب العميق، من الجبلين عن روح قتالية، وهجومية كبدت العدو خسائر في الأرواح والعتاد، ولم يتمكن المستعمر من بسط نفوذه على الجبل إلا بعد أن تصرمت على عقد الحماية مدة ربع قرن وذلك سنة 1934. ومن ثم انكفا الحاج محمد الحبيب إلى مدرسته في تنالت، متشبثا بالذكرى ومحافظا على مقوماتها دارئا عنها كيد المستعمر ومسخه، ونظرا لأهمية هذه المسيرة التربوية في حياته، فقد اعتبر المختار السوسي الشيخ الحاج محمد الحبيب من السادة العلماء والفضلاء الذين أحيوا الدراسات العلمية في سوس، فبعد أن تولت طبقة منهم في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل العشرين، كانت تخب وتضع في عمارة مدارس جزولة “لم يبق من بعدهم إلا الحاج محمد الحبيب الذي لا يزال يستفرغ جهده في الإكباب على التدريس ، لا شغل له ولا همة إلا في ذلك، فلا مال ولا أولاد ولا تشوف إلا نفع الطلبة تعليما وإعانة وتهذيبا وتموينا، فاستطاع بذلك أن يملأ فراغا يكاد يخلو لولاه”. (61)

فإذا كانت مدرسة تنالت وما دار في فلكها في إبان الاستعمار تتحدى سياسة الدخيل القائمة على التفرقة، فحافظت على الوحدة الوطنية، وعملت على تبديد ظلمات الجهل والشعوذة ؛ ونشر العلم والتربية الروحية، فقد قدمت بعد الاستقلال نموذجا لمدرسة مغربية عتيقة وأصيلة، اصطلح في مناهجها الشريعة والحقيقة، وانسجمت فيها ثوابت الرؤية المغربية القائمة على العقيدة الأشعرية. وفقه مالك وطريقة الجنيد، واستجابة لمقتضيات المرحلة فخرجت مجموعة من العلماء، منهم من اتبع نهج الشيخ فآثر نشر العلم في البادية عن طريق المشارطة، ومنهم من تقلد مناصب مختلفة في الإدارة، وخاصة القضاء والعدالة والأوقاف والتعليم، ومنهم من تعاطى أعمالا حرة ووفق في مشاريعه الفلاحية والتجارية وغيرها. هذا عن إشعاع المدرسة والشيخ حي يرزق فما مآلها بعد 1977 سنة وفاة الشيخ ؟.

وإذا كان المختار السوسي قد أشار في النص السابق إلى أن تراجع الدراسة في بعض مناطق سوس غالبا ما يرجع إلى وفاة الفقهاء والقائمين عليها تعليما وإيواءا وإطعاما، فإن الحاج محمد الحبيب قد تفطن إلى تلك الآفة، وحتى لا تعصف بمدرسة تنالت فقد أوصى لأحد نجباء طلبته، ممن لازم دروسه وواظب على خدمته ابن أخته العلامة الحاج إبراهيم بن العربي التدماوي الصوابي الادريسي، أوصى له بثلث ما ملكه الله مكتوبا بخط يده، وبأن يأخذ أولا الكتب كلها وعددها ستمائة عنوان، ما بين مجلد وأجزاء وكتيب ورسائل، دون أن ننسى المخطوط من رسائل الشيخ وبعض قصائده.

وبعد وفاة الشيخ تصرف الحاج ابراهيم بحكمة فاشترى البقعة التي دفن فيها الشيخ، وبنى عليه قبة ودارا حولها للزوار والفقهاء الواردين في المناسبات الدينية ؛ كذكرى وفاة الشيخ وغيرها. فإذا وارى الضريح الجسد فإن روح الشيخ وبركته مهيمنة على المكان فالدعوات في تربته لها حكم الدعوات في حضرته . “وبعد وفاة الحاج ابراهيم سنة 1987، خلفه ابنه سيدي محمد، وهو نسخة لأبيه في أحواله وسيرته، ومدرسته لازالت مكتظة بالطلبة كما تركها رحمه الله ” (62).

*** ***

الإحــــــلات

1- موحتاين الحاج عبد الله : كتاب الرتائم الجميلة في ذكريات الحبيب الجليلة. الطبعة الأولى 1992 ص 231. ” مما ألقي في روع الشيخ، في حال إقباله على الله تمام الإقبال وبعد أذكار كثيرة لله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألقي في روعه : من نظر إليه ولو مرة كفي شر الدنيا والآخرة “.

2- ياقوت الحمومي : معجم الأدباء ج 18 ، ص 40 : أثناء ترجمته لمحمد بن جرير الطبري .

3 – معلمة المغرب، مطابع سلا ، 1995 ، الجزء 8 ، ص 2574-2576 .

4- ابن منظور : لسان العرب مادة جبل.

5- زكريا القزويني:عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، بعناية فاروق سعد، دار الثقافة الجديدة، بيروت ط. 1، 1973 .

6- سورة النحل الآية 15 .

7- زكريا القزويني : نفسه ص 204 .

8- سورة التوبة /40.

9- القزويني : نفسه ص 204 .

10- نفس، ص 204-205 .

12- نفسه، ص 208.

13 – نفسه، ص 214.

13 – نفسه، ص 207 .

14- نفسه، ص 215

14 نفسه، 216-217 .

15 نفسه ، ص 207 .

16 – نفسه، ص 215-216

17 Dictionnaires des symboles musulmans

18 الراغب الأصفهاني : المفردات في غريب القرآن ، مادة خلو .

19 عبد الرزاق الكاشاني : معجم اصطلاحات الصوفية : تح. د. عبد العال شاهين، دار المنار القاهرة ، ط I / 1992 ، باب الخاء ، ص180

20 الدكتور رفيق العجم : موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي ، مكتبة لبنان، ط I ، 1999 ، مادة خلو .

21 أحمد الشكري : المغرب هبة الأطلس، انظر مجلة الأزمنة الحديثة، عدد 13، السنة 2016، ص 4.

22 نفسه ، ص 7.

23 نفسه، ص 5.

24 – في سنة 1882 أثناء حركة الحسن الأول 9 لسوس، قسم اشتوكن إلى قسمين : أهل أزغار، وهم : أيت الدليمي ، وإيداومنو، وأيت بها وملال، وآيت عميرة، وإنشادن، وآيت بكو، وآيت بلفاع، وآيت ايلوكان، وآيت ملك . وأما أهل الجبل والدير فهم : أيدا وكان، وآيت إعزا، وآيت بوطالب، وإيكونوكا ، وايمجكيكيلين، وآيت بها ودرار، وآيت مزال، وإسندالن.

25 – محمد حنداين : مادة شتوكة، معلمة المغرب، ج 16، ص 5302 .

26 – موحتاين الحاج عبد الله : كتاب الرقائم الجميلة في ذكريات الحبيب الجليلة، ط. الأولى 1992 ، ص

18 ، وقد أتى بنسبه كاملا .

27-ومن العلامات البارزة بخصوص انفتاح الساكنة جمع بعض الأولياء ورجال الصلاح بالمنطقة بين النسب الصنهاجي والادريسي العربي، كما هو الحال بالنسبة للولي الصالح الراقد في ضريع ابن يعقوب، ومثل هذا المؤشر وإن كان مستحيل التحقق على مستوى واقع شجرة الأنساب ببلاد المغرب، فإنه يؤشر على مدى استعداد الأهال لاحتواء الآخر في محولة لإغناء الذات” أحمد الشكري، نفس المقال ، ص 5.

28-موحتاين الحاج عبد الله : نفسه ، ص 19-20.

29- نفسه ، ص 229 .

30 – موحتاين عبد الله : نفسه ، ص 22.

31- نفسه، ص 22.

32 – نفسه، ص 225.

33- ترجمهم المختار السوسي، المعسول ج 17، ص 282 إلى ص 288 وفي غيره من الأجزاء، كما ترجم بعضهم صاحب الرتائم في المبحث الثالث من الفصل الأول بعنوان ترجمة بعض أشياخه مفصلا ، ص 23 وما بعدها .

34 – انظر ترجمة بعضهم في الإحالة السابقة .

35 – محمد المختار السوسي : نفسه، ج 17، 283 .

36 -موحتاين : نفسه ، ص 189-190 .

37 – موحتاين : نفسه ص 33-34 .

38 – نفسه ، ص 334-335 .

39 – ألبير عياش : المغرب والاستعمار ، مطبعة اتفاق بوبكري الدار البيضاء ، الطبعة الأولى 1985، ص380 .

40 – نفسه ، ص 381 .

41 – المختار السوسي نفسه ج 17 ، ص 284 .

42 – موحتاين عبد الله : نفسه، ص 22 .

43 – محمد المختار السوسي، نفسه : ج 17، ص 282 .

44 – موحتاين نفسه، ص.45 .

45 – نفسه، ص 45.

46 – نفسه، 45.

47 – موحتاين نفسه ، ص 46-47 .

48 – نفسه، ص 40 و ص 320.

49 – نفسه ، ص 41.

50 – نفسه ، ص 27-28 .

51 – نفسه، ص 54-55 .

52 – نفسه، ص 334 .

53 – نفسه، ص 22 .

54 – نفسه،ص 29 و ص 327 . 328 انظر أيضا السيرة البيلوغرافية لمولاي عبد الحفيظ، تأليف عبد المجيد خيالي، طبعة دار أبي رقراق الربا، 2014 ، ص 44.

55 – نفسه، ص 46.

56 – نفسه ، ص 334 .

57 – نفسه، ص 51-52 .

58 – نفسه ، ص 52-53 .

59 – نفسه ، ص 59 .

60 – المختار السوسي : نفسه، ص ج 17، ص 282 .

61 – موحتاين عبد الله ، نفسه، ص 373-374 .

arArabic