الصفحة الرئيسيةأخبار العدوان على غزةثقافة \ أبحاث

بعيدا عن السياسة قريبا من الإنسان .. حوار مع السي محمد بوستة

عندما قررت هيئة تحرير جريدة “معالم/المراكشية” تقديم شخصية العدد الأول من هذه الجريدة الصادر في سنة 1995 والتي كان يشرف على إدارتها الدكتور نورالدين أيمان، وقع الإجماع على الأستاذ محمد بوستة الأمين العام الحرب الاستقلال ورئيس لجنة إنقاذ مراکش أنذاك

وبعد مراجعة أغلب الحوارات التي أجريت مع الأستاذ بوستة في السنوات الماضية. وجدنا أن الحوار الذي أجراه الزميل عبد الإله التهاني من أجمل الحوارات الصحفية التي أجريت مع الأستاذ محمد بوستة في حياته، لأن جل ما كتب عن الرجل، اهتم بمحمد بوستة رجل الدولة والزعيم السياسي …دون أن يتعمق في أغـوار حياة بوستة الإنسان.
لكل ذلك ولأن هذا الحوار المتميز، عبارة عن وثيقة في حد ذاته، نعيد نشره من جديد

محمد بوستة الإنسان : – لو لم أكن سياسيا لكنت أستاذا.
– سأكون سعيدا عندما أتمكن من تحرير مذكراتي
– ينبغي أن تحيي مراكش تقاليدها وفنونهـا والموروث الشعبي الحقيقي ككل.
– ضمن دراستي القانونية اخترت قانون بلدان ما وراء البحار
– بعـجـبـنـي صـوت عبد الهادي بلخياط و حب شعر محمد الحلوي ويروقني الرسم التعبيري.

أول الكلام :

محمد بوستة . . إسم كبير، وإنسان متواضع، ونبتة في أرض معطاء، لم ينشأ من فراغ ولا في الفراغ. شخصيته البارزة لـم ، تـصنعـهـا الصـدفـة أو الوصولية السياسية المتهافتة ، بل خلاصة تاريخ وبيئة ومجد قديم، فالرجل سليل بيت أصيل في مراكش . وسيفتح محمد بوستة عينيه على هذه البيئة ، التي تدفعه تلقائيا إلى التعلق بالعلم، وحب الناس، والانخراط في خلايا الحركة الوطنية

أنا، يقول التهاني، وإن كنت لا أقلل من أهـمـيـة الـتـصـريـحـات السياسية التي يدلي بها القياديون أو الزعماء، إلا أن الذي بات يهمني هو الاقتراب من مـحـمـد بوستة الإنسان أو بوستة المثقف الذي تغيبه الاستجوابات المذكورة في زحمة الإنشغال بالمواقف السياسية وقضايا الساعة . قال لي صبيحة «أفضل أن يكون الحـوار عفويا دون سابق تحضير أو اتفاق على نقاط»، ثم أضاف مازحا: «هل تعرف جيدا أزقة المدينة القديمة؟» . كنت على مشارف حومة قاعة بناهيض، التي تلتقي مع الأسواق والتجمعات الحرفية القائمة في «الطالعة» . بيت السي امـحـمـد يـبـدو مـواجـهـا لحـمـام السـوق ، على خطوات من الدار الكبيرة، ينتصب جامع ابن يوسف العظيم ، الذي تخرج منه العلماء والأدباء والوطنيون . البـاب مـفـتـوحة، تجتاز الرواق الذي يغطيـه سـقف مرتفع ، يقـوم على أعـمـدة عـالـيـة ، وتدخل إلى القـبـة الفسيحة ، الأثاث والديكور مغربیان خالصان من الأرض إلى السقف ، والأسـتـاذ يـقـوم مـن جـلسـتـه . ويتـقـدم لاستقبالنا بتواضع كبير وبشاشة ظاهرة . يطلب إحضـار الصينية وملحقاتها، ويدعو لمراكش أن تنعم بغيث غزير ، يحول اليابس إلى خضرة، وتسترعي انتباهي ثلاثة كتب كان يطالعها الأستاذ، أو بالأحرى كان يعيد قراءتها، وهي لثلاثة من الرجـال المهمين الحسن اليـوسي، وعـبـد الحق فاضل، وأمين معلوف . ننهي حديثنا الودي الذي لا تلتقطه آلة تسجيل، وبالتالي لايدخل حـروف المطبـعـة، ونبدأ حديثنا الصحفي الذي يطالعه القارئ بعد الفراغ من هذه السطور .

وفي غمرة الحوار لم يظهر على الأستاذ محمد بوستة أي تلكؤ أو تملص أو شـعـور بالحرج، حين يتـحـدث عن الماضي يسبح في أجـوائـه يـتـذكـر الـوجـوه والأسـمـاء والأمكنة . وحين يتـحـدث عن الشـبـاب تـوهـج عـيـناه ، وتشعر في دفء الحياة يغمره بقوة . أما حين يستحضر المرحوم علال، فإنك تحس بالوفاء والحنين يرتسمان على محياه .

هل يحتاج محمد بوستة في مستواه إلى تقديم؟

رجل اجـــتاز عـقـود الزمن، اخترق مـا حملته من أعاصير وعواصف . ونعم بما ساقته من لحظات الاطمئنان والراحة وكما عاش تجربة المعارضة ، عرف تجربة المشاركة في الحكم، والمساهمة في القرار والمسؤولية، معتقدا أن الحياة معركة متواصلة في أكثر من موقع، وعلى أكثر من واجهة.

وإذ يتقدم في السن، لازال السي امحمد يقرأ كثيرا، ويعتني بنفسه، ويحرص على أناقته والذين يعرفونه عن قرب، يجمعون على أن الرجل شعبي للغاية ، اجتماعي بطبعه، يزور الأهل ويسأل عن الأصـدقـاء يـعـود المرضى منهم، ويشارك المحتفلين منهم فرحتهم . أصيل يحافظ على العادات ، ويندمج في الطقوس الاجتماعية، ويبتهج لإطلالة الـعـيـد ولا أزيد شيئا. هذه جلستنا، ومـا كل حديث في السياسة .

س: سيدي الأستاذ، يغرينا التعرف على بدايات العمر، وبالتحديد على محمد بوستة الطفل .

ج : قضيت فترة الطفولة بمدينة مراكش، هنا داخل هذا البيت الذي نحـن فـيـه الآن، ولادتي كـانـت عـام 1923، وهذا سـر أذكـره لأول مـرة، إذ أن بـطـاقـتـي الرسمية تورخ لميلادي بسنة 1925 . وقد اضطررت إلى مغادرة مراكش في وقت مبكر ، بمجرد ما أتممت الدراسة الابتدائية . وأذكر أنني كنت هنا، مع فئة من الأطفال المراكشيين، نذهب إلى «المسيد، الذي نعرفه في مراكش باسم «الحـضـار، ونذهب أيضـا إلى بعض الحلقـات الدراسية ، ويحلى الخطة الخلايا الوطنية كما كانت لنا ميول رياضية ، وبصفة خاصة نحو لعبة كرة القدم.

من الذكريات التي أستحضرها عن طفولتي أو بداية شبابي، أن وراء جدران هذا البيت، وبالضبط في المكان المسمى (سوق الشعرية، حضرت أول مهرجان خطابي انتهى بمظاهرة كان ذلك سنة 1937 ، وبالضبط في شهر شتنبر، حيث انعقد تجمع كبير ترأسه الأخ عيد القادر حسن العـاصـمي ، ومنه انـتـقـلنـا لنتظاهر
بساحـة «جامع الفناء ، فـواجـهـنا المخازنية ، وحـاشـيـة الـبـاشـا الكلاوي، وفي مقدمتهم «البـيـاز»، وتناولونا بالعصي، وتلك كـانت من المظاهرة العظيـمـة القوية ، التي شهدتها مراكش عـام 1937 ، إذ على إثرها انتـهى إخـوان عـديـدون إلى المنفى . أمـا أنـا فكـان من حظي أن جلبـابي تمزق، فاضطررت للإلتجاء لدى طبيبة إيطالية اسمها «كرابيزا» ، كان لها اتصال بالبيت وببعض أفراد العائلة . وقد تركتني في محلها، إلى أن تيسر لي أن أعود إلى بيتنا. هذه بعض الذكريات وغيرها كثير .

س: سيدي محمد، هذه الصورة المختصرة عن بوستة الطفل، لاتصرفنا عن محاولة التعرف على الوسط العائلي الذي شب فيه. حبذا لو ندخل الآن إلى البيئة الأسروية للطفل بوستة .

ج : عائلة بوستة عائلة مغربية قديمة. كان أفرادها يتعاطون للدراسة والعلم مثل حالة الوالد رحمه الله ، أو للفلاحة كمورد للرزق، أو لبعض الأعمال الحرفية . ولكن الملاحظ أن جلهـم كان لهم جانب مشترك، هو التشبت بالدين . وكـمـا يقـول صديق لي من أسرة الأدباء، يعـرف الأسرة وتاريخها، فإنه «على كثرة أفراد عائلة بوستة كنت لا تجد فيهم تاجرا وإنما فلاحا، أو حرفيا، أو عالما» . أعرف عددا من أعمام والدي رحمهم الله ، كانوا إما مفسرين للقـرآن أو لكتـاب الـشـفـا للـقـاضـي عـيـاض، وذلك في الجوامع المحيطة ببيتنا، إما في مسجد «قاعة بناهيض» ، أو بمسـجـد الـصـحـراوي، أو في جامع ابن يوسف، وهو الأقرب إلينا. وكانوا دائمـا على هذه الحال، سـواء في رمضان أو في غير رمضان . . .

وكما قلت لكم خارج هذا الحوار ، كان جدي ولوعا بقراءة «دليل الخـيـرات» للشيخ سليـمـان الجـزولي، إلى درجة أنه حبس أحد جنانه ليقرأ «الدليل» في المدينة المنورة ، بعد صلاة العصر من كل يوم . ولازال الأمر مستمرا إلى الآن، منذ ما يزيد عن مائة وعشرين سنة

—— يتبع 

arArabic