الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

بطل خوان غويتسولو يكتب حكايته في “مشاهد بعد المعركة”

بقلم ابراهيم العريس*

لو عاش خوان غويتسولو أربع سنوات أخرى بدلاً من أن يرحل في مراكش عند بدايات صيف 2017 لكان بلغ الـ90 من عمره، لكنه لم يكن يبدو في تلك السن. كان بالكاد يبدو في الـ60، وكان لا يزال له فضول ابن الـ30، ومع ذلك كان يبدو عليه أو حتى يقول دائماً إنه آسف، لأنه لم ينجز بعد تلك المهمة التي كان يتطلع منذ أول شبابه إلى تحقيقها، مهمة أن يستعيد من فرانكو وغلاة المتطرفين الإسبان تلك الإسبانيا التي كانت تسمى يوماً الأندلس، ويتعايش فيها المسلمون واليهود تحت شمس الفكر في انتظار أن “يثوب المسيحيون إلى رشدهم” وينضموا إلى ذلك التناسق الإنساني البشري.

وغويتسولو لأنه لم يتمكن من تحقيق ذلك وضع نحو دزينة من الدراسات، وعدداً لا بأس به من كتب روائية لعل في إمكاننا وصفها بالنصوص التخريبية، ولكي نقرب هذه الفكرة الأخيرة من ذهن القارئ الذكي قد يكون ملائماً أن نشير إلى أن ثمة كتاباً وفيلماً شهيرين، لو جمعناهما معاً سنطلع بالجوهر الذي تحمله رواية من أعمال غويتسولو الأخيرة، ربما يمكنها أن تلخص كل ما نريد قوله، رواية “مقبرة براغ” للإيطالي أمبرتو إيكو، وفيلم “جوكر” الذي بات شهيراً خلال السنوات الماضية، علماً بأن رواية غويتسولو التي نتحدث عنها هي “مشاهد بعد المعركة” التي صدرت على أية حال قبل كتابة إيكو روايته وقبل عرض فيلم “جوكر”، لكننا قد لا نصل إلى القول إن هذين العملين الأخيرين استلهما رواية الكاتب الإسباني “المراكشي”. كل ما في الأمر أن الخط التدميري واحد في الأعمال الثلاثة، وأن وحدة الشخصية الرئيسة في عالم فقد القدرة على التواصل هي نفسها، وأن الموقف المعادي لفكرة “الصواب السياسي” واحدة. في اختصار هي أعمال ثلاثة تجمع على رغم تفاوتها ما يمكننا أن نسميه روح العصر.

دروب المنفى

لا شك في أن خوان غويتسولو كان من المعبرين عن تلك الروح، ومنذ بدايات شبابه حين دفعته مناوأته لديكتاتورية الجنرال فرانكو وعداؤه لكل أنواع الفاشيات والقومجيات، إلى سلوك درب المنفى منذ أواسط الخمسينيات من القرن الماضي. ومن هناك راح ينطلق إلى مناطق عديدة من العالم، لا سيما إلى المغرب التي ربما يكون قد رأى في مدنها كطنجة ومراكش وفاس صورة لتلك الإسبانيا المختفية التي يريد لها أن تنبعث من جديد، لكن عزاءه الأكبر كان طبعاً في الكتابة.

ولعل “مشاهد بعد المعركة” التي صدرت مترجمة إلى العربية في القاهرة قبل سنوات تختصر كل الحكاية، بخاصة أن غويتسولو اختار لـ”أحداثها” منطقة جغرافية تقع بين بيل فيل المتاخمة لساحة الجمهورية في العاصمة الفرنسية وباربيس المتاخمة لمنطقة التجمعات العربية وغير العربية حيث يسكن هو نفسه، وحيث “لا يشكل السكان الفرنسيون سوى أقلية بين الأقليات الأخرى”، ففي منطقة وسطى بين ذلك الفضاء الفرنسي العتيق والبعيد من باريس البورجوازية، وتحديداً في حي “سانتييه” حيث مصانع الثيات التي يمتلكها ويديرها يهود جلهم من أصول جزائرية، ويعمل فيها كـ”عبيد السخرة” عرب وإسبان وأفارقة آخرون وغيرهم من “معذبي الأرض” في مقابل أجور بالكاد تكفي لسد رمقهم. وتجتمع في المقاهي البائسة أقوام خليط لا يزال الفرنسيون السكارى من بينهم يعتقدون أنهم سادة العالم، وهناك بالتحديد يقيم “بطل الرواية” الذي ربما يكون أنا / آخر للكاتب نفسه أو على الأقل للراوي الذي قد لا يكون الكاتب، ولكنه قد يكون الكاتب أيضاً، فالقارئ في نهاية الأمر لن يكون كبير اهتمام بمن هو من.

المهم أن “البطل” رجل وحيد وكئيب ورث من لويس كارول صاحب “أليس في بلد العجائب” هيامه بالصبايا الصغيرات، وعن شخصيات نهايات القرن الـ19 أناقته البائدة، وعن معظم أبطال روايات وسط أوروبا وحدته المريحة وتساوقه مع نمط حياة يكاد يكون رتيباً إلى حد الرعب، لكنه راض عن ذلك إلى درجة أن زوجته التي لن نراها أو يراها هو سوى مرة واحدة، لا تشكل جزءاً من يوميات حياته، مع أنها تقيم في غرفة مجاورة تماماً لغرفته البائسة المطلة في زاوية منها على دار أوبرا غارنييه. كل علاقته بتلك المرأة تقتصر على قصاصات ورقية يدون عليها بشكل يومي بضعة أسطر يسللها تحت باب غرفتها وهو يتوجه في جولاته الخارجية اليومية التي غالباً ما تبدأ بزيارته الحدائق العامة حيث يتلصص على البنات الصغيرات المرافقات أمهاتهن.

تلك الكتابات الغريبة الغازية

كل هذا كان يمكنه أن يبقى على تلك الحال إلى الأبد لولا أن صاحبنا يفيق ذات يوم ليكتشف على جدران الحي كتابات بلغات غريبة وتحمل رموزاً أشد منها غرابة، وإذ تتكرر هذه الظاهرة يحدث بطلنا بأن ثمة أموراً ليست على ما يرام فيتوقع انفجاراً ما لكنه لا يستطيع أن يتنبأ بما إذا كان انفجاراً فاشيا ضد “الأغراب” أو انفجاراً من صنع الأغراب. في الأحوال جميع سيثير الأمر اهتمامه واهتمام القارئ بالطبع، في سياق تشويقي يبرز فيه بشكل خاص ردود فعل رواد المقاهي من الفرنسيين الأصلاء البائسين الذي يرون أن الوقت قد حان للتحرك ضد هذا الغزو الفاضح للديار الفرنسية. ويكون من الأمور ذات الدلالة هنا أن يطلقوا عل حراكهم اسم “شارل مارتل”، على اسم القائد الفرنسي الذي أوقف قبل قرون زحف العرب (المسلمين) الصاعدين من إسبانيا الأندلسية لغزو أوروبا.

بين الغموض والبراءة

يتركنا خوان غويتسولو (1931 – 2017) في نهاية الأمر أمام ذلك الغموض متصنعاً البراءة في عمل يبدو فيه وكأنه قدم نوعاً من التلخيص البديع والقاسي، ليس فقط لمجمل عمله الروائي (ومن تحفه فيه “دون جوليان” عن الخيانة الإسبانية التي مكنت المسلمين من فتح الأندلس، و”خوان البلا أرض” عن الحرب الأهلية الإسبانية، و”مقبرة”، وغيرها)، أو غير الروائي (كدراساته المعمقة في “مدونات سارازانية” عن الماضي الإسلامي لإسبانيا، أو “غاودي في كابادوتشي” عن التأثيرات الإسلامية في هندسة غاودي المعمارية… إلخ) بل حتى لحياته نفسها، تلك الحياة الشريدة التي لم يعرف لها مستقراً إلا على أوراقه وفي متاهات أفكاره الخلاقة التي كان يردد دائماً أنها ميراث ماضيه الأندلسي، وليس بالمعنى الإسلامي العربي وحده بل بالمعنى الإنساني العام الذي يقوم على تلاقح للأفكار والحضارات لولاه لا يستحق العالم أن يوجد.

—————

* أندبندنت عربية

arArabic