الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

ضرورة المصاحبة النقدية للمعرفة الصوفية ..تصوف الغرب الإسلامي ح 7

د . مولاي علي الخاميري ـ أستاذ جامعي – مراكش

الحلقة السابعة : تصوف الغرب الإسلامي ( المغرب والأندلس) من خلال الرسالة العلمية في التصوف للششتري

عاش علي بن عبد الله النميري المشهور بالششتري نسبة إلى القرية التي ولد فيها في القرن السابع الهجري ( 610\668هج ) ، وتنقل فكريا بين مدارس التصوف المختلفة ، كما كانت لأسفاره المتعددة من الأندلس إلى المغرب العربي الكبير ومصر آثار واضحة على ثقافته الصوفية ، فقد مال وترك ، وانتمى وغَيَّر المجرى الفكري الخاص عدة مرات تبعا لمصاحبته لأكثر من شيخ ، وانتمائه للجماعات الصوفية المختلفة مُجَرِّبا ومستفيدا إلى أن استقر به الحال بمصر ، يقول محقق الرسالة الششترية الأستاذ محمد العدلوني الإدريسي معددا حِقب حياته الفكرية ، الصفحة : 17 من مقدمة الرسالة : ( الحقبة الثالثة هي التي عاشها بمصر ، والتقى فيها بأقطاب الطريقة الشاذلية ، تلامذة أبي الحسن الشاذلي ، وتعرف على مذهبهم ، وتأثر به تأثرا عظيما ، كما كان يكن لهم محبة وتقديرا كبيرين حتى إنه اعتُبِر فيما بعد شاذليا ، واحتل مكانا في سند الطريقة الشاذلية………والتصوف الشاذلي كما هو معلوم سني معتدل ، قريب من تصوف الغزالي ، المقيد نسبيا بالقرآن والسنة ) .

هذا النص يدفعنا إلى ذكر الحِقَب الأخرى كما عددها المحقق المذكور لرسالة الششتري ، وينص في تتبعه على أن الحقبة الثالثة السالفة قد سبقتها حقبتان : حقبة انتقاله من المغرب الأقصى إلى بجاية بالمغرب الأوسط ، وفيها كما يقول المحقق العدلوني الإدريسي ، الصفحة : 13 : ( سيستمر في هيامه وبحثه عن الحقيقة واليقين ، محاولا اقتباس الأنوار من كل نبراس علم ، وأول طريق صوفي نَهَجَه ، ومَثَّلَ مرحلة روحية أولى في معراجه الصوفي ، طريقة السهروردي مع أحد روادها القاضي محي الدين بن سراقة ، وهو طريق سني معتدل……) .

أما الحقبة الثانية فتبدأ بالتقائه بابن سبعين في بجاية ، وعندما ( افتتن به ، وأصبح من أتباعه المخلصين ، وابن سبعين يعد رأس اتجاه متطرف في التصوف المتأخر بالغرب الإسلامي ، اتجاه يقول بالوحدة المطلقة بين الحق والخلق ، تعدى ابن عربي بإمعانه في القول بالوحدة…….ص : 16 ) .

تجوال الششتري رحمه الله الفكري كما رأينا لم تتحكم فيه الصدفة ، أو الرؤية المضطربة وإنما خضع لمعطيات زمن القرن السابع الهجري بصفة عامة ، حيث ازدهرت فيه المعرفة الصوفية ، وتطورت بالرغم من الضعف السياسي والفكري العام ، وهكذا تفرعت إلى تصوف سني ملتزم بآداب الشرع ، رافض لكل ( نزعة فلسفية واعتزالية ، أو شيعية ، أو شعبية …. ) وتصوف ذي نزعة فلسفية متأثر ( بالآراء والأفكار والمعتقدات الاعتزالية والشيعية والغنوصية والأفلاطونية المحدثة……) ثم التصوف الشعبي الطرقي وهو الذي ( أصبح ضمنه التصوف سلوكا جماعيا ، له نظم وقواعد ، ورسوم خاصة ، كما له شيخ يعرف بالشيخ المؤسس ، وظيفته الأساسية تربوية وتعليمية….) .

وخضع كذلك لمؤهلات متصوفة القرن المذكور الذين اشتهروا بتضلعهم في المعرفة الدينية عموما ، وصراعهم مع الفقهاء ، ولاسيما مع ذوي النزعات الفلسفية منهم ، وما نتج عن ذلك حين تحولت الأندلس والغرب الإسلامي عموما إلى مصدر للإشعاع الصوفي العرفاني الذي تحكمت فيه نوازع العلم والبحث الفلسفي ، ويضاف هنا عامل آخر وهو عودة التأثير القوي للطرق الشعبية بعدما هاجرت إلى مصر ، واشتد عودها ، وأضحى لها أتباع ومريدون وطوائف في البلد الأصل المغرب والأندلس كما وقع مع الشاذلية وغيرها…..راجع الصفحات 9\10\11 من مقدمة المحقق العدلوني ) .

بعد هذا التقديم سنركز على مضامين الرسالة الششترية ، وسنركز فيها على نقطتين مهمتين : النقطة الأولى هي التعريف بالمعرفة الصوفية لدى الششتري ، وينبغي أن لا نفهم الأمر بالفهم التقليدي المتداول ، لأننا سنجد الرجل متميزا في هذه النقطة غاية ما يكون التميز ، فالتعريف عنده هو تعريف فكري متنوع ، ولكنه متكامل الخطوات المسلوكة للوقوف على المعنى بتعدده وأبعاده المعرفية ، وفيه من المراحل ما يلي :

ا – الجمع بين مفاهيم الفقر والتصوف ، والفقراء والصوفية ، والسلوك والجذب ، يقول عن المنحى الأول ، الفقر والتصوف ، الصفحة : 135\136 : ( قيل فيها بمعنى واحد ، لأن الفقر الاحتياج إلى الله عز وجل ، ولا يكون ذلك إلا مع الصفاء من الكدرات ، فحيث كان التصوف من المقامات يتبعه الفقر ، وحيث كان الفقر يتبعه الصفا ، وقيل هما متباينان ، ولكن التصوف أفضل ، لأنه غاية الفقر ، وهذا مذهب صوفية الوقت ، وسكان الخونك ، وقيل الفقر أفضل ، لأنه شامل لكل ما سوى الله تعالى ، لأن الحادث مفتقر لموجود يوجده ، ثم لِمُمسك يمسكه ، ثم لمُنعم ينعم عليه بما يظهر ، فالفقر يكون قبل التصوف ، ومعه ، وبعده لقوله تعالى : ” يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ” ) .

ويقول عن منحى الفقراء والصوفية ، الصفحة : 137 : ( أما الصوفية فخمسة أصناف : الملاميتة والذين يدعون اليوم بالصوفية والمتصوفة والمتميزة والظرفاء ، فالملاميتة أحسنهم حالا…..والصوفية اليوم سكان الخوانك ، والخانكة الرباط باللسن العربي…….) .

ويقول عن المنحى الثالث الخاص بالسلوك والجذب ، الصفحة : 139\140 : ( قال الله تعالى : ” الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ” فذكر الاجتباء وهو الاصطفاء دون إنابة تتقدم ، وهذا هو الجذب ، ثم ذكر الإنابة بعد تقدم الهداية ، وهي رتبة السلوك ، والفضل تقدم السالك لقوله تعالى : ” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ” وقوله تعالى ” إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ” وقالوا : من لم يجتهد في العبادات ، ولم يسلك المقامات حتى يعرف المقام الذي يخرج عنده ، والذي يدخل فيه ، والبرزخ الذي بينهما ، ولم يبصره شيخ بكل منهل يحل فيه ، وينبهه على زلات الأقدام لم يفتح له باب الملكوت ، ولا فاز بطائل ، وفَضَّلَ قوم المجذوبَ لقوله تعالى : ” ليس لك من الامر شيء ” ولقوله تعالى ” وما تشاءون إلا أن يشاء الله”).

سلك الششتري كل هذا التدقيق الفكري ليصل إلى ضرورة الفرز بين المتصوف وغيره من خلال الحياة الظاهرة والجامعة بين كل الناس قبل أن نصل إلى مرتبة التعريف المنبثق من المنظومة الصوفية الداخلية ، وكأنه تمحيص أولي للمتصوف ، يقول في الصفحة : 138 : ( والمتصوفة يتكلمون في أذواق القوم ، ويشيرون بإشاراتهم ، ويلبسون ما وجدوا ، ويتسببون ، ولا يرتبون في الربط ، والمتميزة يلبسون الثياب الفاخرة على هيئة معلومة ، ويعيشون بالسؤال ، وبخدمة أبناء الدنيا) .

ب – التركيز في تعريف المعرفة الصوفية على مفاهيم التوحيد كما يفهمها المتصوفة ، وهنا ينطلق الششتري من التقسم الثلاثي المشهور : عامة ، وخاصة ، وخاصة الخاصة ، فتوحيد العامة (إفراد الذات عن الشريك بالقول المقبول من غير بحث ولا استدلال بمعقول وصناعي ، وإلى هذا ذهب أهل القرآن والحديث والفقه احتياطا على الناس ، وخوفا من تشويش العقائد لقوله عليه السلام : ” تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذاته “……وتوحيد الخاصة : ما أثبته الأصوليون بالنظر والاستدلال في الذات والصفات والأفعال………. وتوحيد خاصة الخاصة ما رأته الصوفية من العجز عن بلوغ كنه الأمر بعد الوقوف على ما أثبته الأصوليون في ذلك ، قال الجنيد : ” أشرف ما قيل في هذا المقام قول الصديق رضي الله عنه : سبحان من لم يجعل سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته ” وقيل لعلي رضي الله عنه ” بم عرفت ربك ؟ قال : بما عرفني نفسه ” وقال ذو النون : ” عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي ” وقيل ليزيد : بم عرفت ربك ؟ قال : ” بأني لم أعرفه “…..) .

تركيب جميل يتميز به أهل التصوف الحقيقيون خاصة ، لأنهم أهل رأي ، وفطرة فكرية تأملية تتماشى مع منظورهم للمفاهيم المختلفة ، وغالبا ما تكون مركبة كتركيب النفس والحواس ، تتخطى مسالك الأدلة بتعددها وتنوعها ، وتركن إلى الجمع بين الذوق والفكر والشعور حتى قال الهروي : ( توحيد العامة ما صح بالشواهد ، وتوحيد الخاصة ما ثبت بالحقائق ، وتوحيد خاصة الخاصة أن لا يرى في التوحيد دليلا لشدة ظهوره…….راجع الصفحتين : 157\158) .

ج – التعريف المستفاد من السلوك والممارسة الواقعية ، ويسمى عند المتصوفة بالتجريد ، ويقوم على التمسك بالكتاب والسنة ، وبمكارم الأخلاق ، وبالخفاء عن الناس في التفاصيل ، انسجاما مع ذواتهم ، وتمييزا لهم عن العامة ، فعلى سبيل المثال عندما ينظرون إلى الزهد ، ويمارسونه يتحول لديهم إلى مفهوم قار ومتحول ، يقولون : ( بالزهد ماتت الخطايا ، فالتجريد ترك الدنيا ، وهو إما بالباطن أو الظاهر ، أو بالباطن والظاهر معا ، فالتجريد بالباطن طريقة الملامتية من الصوفية ، قلت نُسِبوا إلى الملامة لأنهم يظهرون ما يلامون عليه تسترا لأنفسهم ، وطلبا للإخلاص………. والتجريد بالظاهر عدم المال ، وهو خير للفاضل والشرير ، أما الفاضل فيحف بالفقر شُعبه ، ويهون حسابه……ولهذا قالوا : ومن العصمة ألا تقدر ، ومن العصمة ألا تجد……..والتجريد بالباطن والظاهر معا طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطريقة أصحابه رضي الله عنهم ، ومن كان ذا مال كان المال عنده كالعارية…..) .

بمثل هذه التنبيهات والانتباه يفوق المتصوفة غيرَهم من أهل المعارف الأخرى ، وسيتبين لنا هذا بوضوح في النقطة الثانية القادمة ولكن أريد أن أشير إلى أن القارئ للمعرفة الصوفية عليه أن يكون على علم بخصوصية تلك المعرفة معنى ومبنى ، وأن لا يتسرع في التأفف والنفور ، فالقصد سيبقى هو الحصول على معرفة عميقة وجامعة ما بين شتات الكون والوجود ، وأنا أتكلم على الجانب الصحيح السليم من المعرفة المذكورة ، وقبل أن يتسرب إليها الضعف والدجل ، وكما فهمها الششتري رحمه الله حين قال في تلخيص مركز لمعنى الفقر : ( فالفقير بخير عظيم ، سواء ترك الدنيا اختيارا أو اضطرارا ، والخيرة حقيقة إنما هي لله وحده ، لأن العالم كله مضطر فيما هو فيه حتى الملك في ملكه ، والفقيه في فقهه ، والصانع في صنعته ، والنهي عن إضاعة المال راجع لإهلاكه فيما لا يجب……..راجع الصفحات : 51\52\53 ) .

النقطة الثانية وهي خاصة بحماية المعرفة الصوفية ، والدفاع عن حصيلتها الفكرية المميزة ، إما بالتصدي للمنكرين ، أو بالتفسير ، ودفع معالم الانحراف عنها ، ولم أر فيما اطلعت عليه من كتب التصوف إلى الآن من كانت له جرأة الششتري ، ولا من كان داريا بالمعرفة الصوفية ، وجامعا بين فكرها وتجلياتها المختلفة ، وبوضوح عز نظير له عند بقية المتصوف كما سننتتبع ونرى :

1 – التصدي للمنكرين : الإنكار يحتل مساحة عريضة من مناحي المعرفة الصوفية ، وله أسبابه الثابتة والمتحركة تبعا لاختلاف الظروف المحيطة بالفعل الصوفي ، والششتري رحمه الله نظر إلى موضوع الإنكار من زوايا الوجود التاريخي ، وتضاد مظاهر الحياة بصفة عامة ، ثم بحث عن تصويب مكامن الإنكار ، الغائبة عن أذهان المنكرين .

يرجع الششتري إلى التاريخ ويذكرنا بأول إنكار وقع في الحياة ، ويحدثنا عن قوم نوح لما أنكروا عليه بسبب الضعف كما قال تعالى : ” قالوا أنومن لك واتبعك الارذلون ” ثم علق وقال : ( فأخبر أن ما فعله من قبلنا من الأمم من الإنكار موجود فينا ، فالإنكار على صفوة الله لا يزال يتوارث……) .

وعندما أراد تصنيفهم قسمهم إلى ثلاثة أقسام كما قال : ( والمنكرون على الفقراء ثلاثة أصناف : أرباب الدنيا وأتباعهم ، والجاحدون من الفروعية وأتباعهم ، والمتعمقون في الأعمال ، أو المتنمسون وأتباعهم…..) .

ولهذا التصنيف تذييلات فكرية عميقة ، أتى بها الششتري لنشر معارفه الكثيرة في الموضوع ، ولتقوية نفوس المتصوفة أمام زحف تيار الإنكار ، المتعاظم في عصره ، يقول : ( فأما أرباب الدنيا فإن الفقراء أضداد لهم لرثة ثيابهم ، وقلة جاههم ، والضد يُبغِض ضِدَّه ، والدنيا تورث القساوة ، وطول الأمل ” وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ” وأتباعهم يمشون في مرضاتهم وقالوا : ” ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ” وأما الجامدون من الفروعية فإنهم يعتقدون الإحاطة بالشريعة ، وينكرون على من ترك طريقهم ، وتتبعهم العوام على ذلك ، والإحاطة بالشريعة متعذرة ، وقد أنصف مالك رحمه الله حين قال له الرشيد : ” أريد أن أحمل الناس على الموطأ ، فقال : لا ، فإن الصحابة تفرقوا في الأمصار ، وعند كل واحد منهم علم…….) .

نبرة النقاش الهادئ لأمور التصوف ميزة أساسية في فكر وكتابة الششتري ، تُحسَب له ، وتجعله فاهما ومنافحا عن المعرفة الصوفية بعلم واستدلال واضحين ، وجميل هذا الباب هو تحديه للمنكرين ، وجمعه لكل الأمور المُنكَرَة عليهم ، وإرجاعها إلى مسارها الصحيح من خلال آيات القرآن ، ونصوص السنة ، وأعمال السلف الصالح ، يقول في بداية تحديه : ( كل ما يُنكَر عليهم – المتصوفة – فله أصل في الكتاب والسنة والعمل الصالح ، وذلك نحو سبعين أمرا ، وهي التجرد ، والتقشف ، وترك الأسباب ، والسؤال ، والمشي بالزنبيل ، وحلق الرأس ، ولباس الصوف ، ولباس الشعر ، ولباس المرقعة………) .

من فوائد هذا الباب المباشرة تزويد القارئ بأسماء تلك الأشياء التي أوصلها كما رأينا إلى سبعين أمرا تؤخذ على أهل التصوف ، وقد أثبتُّ منها بعض الأمثلة ، ويجب على القراء أن يعرفوا أن الششتري رحمه الله ذكر تعليلات خاصة لكل تلك الأمور ، وسأزودهم بدوي بتعليل ترك الأسباب ، يقول : ( وأما ترك الأسباب فقال تعالى ” ” وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك ” وقال تعالى : ” ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه “……….والفقراء غابوا عن السبب بالمُسبِّب ، ثم غابوا عن عالم الخلق بمطالعة الحق……..راجع الصفحات : 72 إلى 119 ) .

بمثل هذا الوضوح والسمو في الطرح والنقاش رأى الششتري المعرفة الصوفية ، وقدم لها خدمات فكرية ، وأعادها إلى طريقها الصحيح السليم بعدما أصابها ما أصابها من الضعف والجهل والانحدار ، والنقد السلبي ، المُفرِغ لها من كل شيء إيجابي وجميل .

2 – مسألة السماع : وهي من بؤر الأخذ على المتصوفة ، والمقصود تحديد مصطلح السماع في إطاره المقبول كما فهمه الششتري بجرأته الفكرية المعهودة ، فالسماع كما يقول : ( ظاهره فتنة ، وباطنه عبرة ، فمن عرف الإشارة حَلَّ له استماع العبرة ، وإلا فقد استدعى الفتنة ، ولأجل هذا قال أبو علي الروذباري : ” ليتنا خلصنا من السماع ، لا لنا ، ولا علينا ” وقال ذو النون المصري : ” السماع وارد حق ، فمن أصغى إليه بحق تحقق ، ومن أصغى إليه بنفس تزندق…..) .

وللتدليل على حقيقة السماع بطريقة الوجود والممارسة في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال : ( فتَوَاجدَ عليه السلام ، وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبه ، فلما فرغوا آوى كل واحد إلى مكانه ، فقال معاوية : ما أحسن لعبكم يارسول الله ، فقال مه مه يا معاوية ، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب………- راجع الصفحات : 113 إلى 119 ) .

أثارتني عبارة ( ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب ) وقبلها عبارة ( فمن عرف الإشارة حل له استماع العبارة ) عبارتان تثبت أن السماع هو معطى ذاتي ونفسي ، وليس شيئا مصطنعا ، أو قائما على طقوس متوارثة ، فعلى هذا المنوال يمكن أن يكون أثر السماع خفيا ، أو مجلجلا ولكن بتوارد مع كل فيض نفسي ، منفعل بما يراه ويسمعه ، هو نوع من الذوق والتجرد والتعبير الحركي عن الممارسة الصوفية ، قد يبدأ بميل بسيط ، وبحنحة صوتية خافتة ، وقد يتطور إلى الفعل المشاهد والمحسوس الدال على صاحبه في زمن محدود ، ومتعلق بظروفه ، وعليه يمكن القول بأن لكل حال سماعه ، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى الإكثار من التعبيرات السماعية تبعا للأحوال المتجددة عند الشخص الواحد ، أو عند الجماعة الصوفية .

الششتري رحمه الله برع كما رأينا وعلى طول هذا المقال في سرد مواقفه وفهومه للمعرفة الصوفية ، وأثبت جدارته الفكرية والعلمية ، وكانت له جرأة خاصة في طرح أهم المآخذ عن تلك المعرفة قصد مناقشتها وردها ، وهذا ما تميز به الرجل ، ولعله يعد بسببه من مجددي الفكر الصوفي ، ومن أهل العلم واليقين فيه ، ومن الداعين إلى إحيائه في النفوس بقواعده الصحيحة ، وضوابطه السليمة ، ويجب على كل متصوف أن يعرف قدر الششتري بصفة عامة ، وأن يتتبع خطواته ، ويحاول أن يجد لنفسه موطء قدَم ضمنه ، فعملية إحياء النفوس ، وإحياء التصوف تحتاج إلى علم ويقين متكاملين بصحة الممارسة وسلامتها من كل زيغ نفسي ، ومتوافقة مع أحكام الشرع وبرؤى ذاتية ، تنبعث من الأعماق ، وتحدث الأفعال ، وتعبر عن الأذواق ، وتشعر بطبائع الإنسان الجميلة .

( يتبع )

arArabic