الصفحة الرئيسيةمنوعاتثقافة \ أبحاث

الخلاف في الأحكام الشرعية…لا يحق أن يتعاطاه إلا من كان أهلا له

للمراكشية : ذ.محمد الطوكي

احتد الخلاف ،بمفهومه العامي، في زماننا حتى صار من مآسيه، كما قال المرحوم عبد الله إبراهيم، ما يفرق أكثر مما يجمع. وسنحاول التعرف على الخلاف في الرأي كما مارسه القدامى، وكيف دبروه واستثمروه؟. وبما ان مرجعيته، كما نعتقد، كامنة في العلوم الشرعية، ومنها خرج ليهيمن على بقية المجالات، فإننا سنركز على الخلاف في هذا القطاع العلمي خاصة. تاركين الفرصة للقارئ ليقيسه إيجابا وسلبا على بقية المقامات الخلافية.

فمن معاني الخلاف في اللغة: المضادة، يقال اختلف الأمران إذا لم يتفقا. ومن مداليله كما يقول العلامة اللغوي ابن فارس في قاموسه:” أن يجيء شيء بعد شيء ليقوم مقامه. فكل واحد من المختلفين يحاول أن ينحي قول صاحبه، ويقيم نفسه مقام الذي نحاه”.

فالخلاف بهذا المعنى لا يمكن تصوره إلا في إطار المدافعة والمناظرة بين اثنين أو أكثر، كل طرف يحاول أن يستأصل قناعة صاحبه، ويستنبت لديه رأيا مغايرا لما كان يعتقده. هذا ما توحي به الدلالة اللغوية.فالخلاف غير الحوار.

الخلاف من الناحية الشرعية:

نشأ الخلاف في إطار الدراسات الفقهية، وجرى بين أتباع المذاهب جدال تناول في البدء مسائل جزئية، ثم لم يلبث أن تعداها إلى القضايا الأصولية.

إن المتذرع بالخلاف، ويسمى بالخلافي، يتفق مع المجتهد في الحاجة إلى معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام، وينفرد صاحب الخلافيات باحتياجه إلى تلك القواعد؛ لحفظ أحكام إمامه حتى لا يهدمها المخالف.يقول ابن خلدون في مقدمته: ” لابد – لصاحب الخلافيات- من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته”.

فالخلاف بهذا المعنى من العلوم المضنون بها على غير أهلها، فلا يحق أن يتعاطاه إلا من كان أهلا له ممن بلغ مستوى الاجتهاد.

وينقسم الخلاف عند علماء الشرع إلى قسمين:

1- محمود: وهو لا يعتبر خلافا بقدر ما هو انفتاح على الآخر من غير اتباع هوى. يقول أبو إسحاق الشاطبي (ت 790هـ): ” ومن هذا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد، حتى إنهم لم يصيروا شيعا، ولا تفرقوا فرقا؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع. فاختلاف الطرق غير مؤثر، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود، وإن اختلفوا في أصناف التوجه” .

2- الخلاف المذموم: وهو الخلاف الذي هو في الحقيقة خلاف وهو – كما يقول الشاطبي:” ما كان ناشئا عن الهوى المضل… ومؤد إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق”.

وقد رصد المستشرق كولد تسيهر هذين النوعين من الخلاف الإيجابي منهما والسلبي حيث قال:” وقد اقتنع الرجال العمليون من الفقهاء من أول الأمر بأنهم جميعا على الحق، وانهم يخدمون مبدءا واحدا، وعلى هذا الأساس كانوا يتبادلون الاحترام… ولم يظهر التعصب المذهبي إلا عندما إزداد العجب عند الفقهاء، الأمر الذي كان موضع لوم أهل الجد منهم. وعلى العموم فقد طبع بالتسامح هذا الحديث اختلاف أمتي رحمة”

لقد اعتبر ابن خلدون الخلاف المحمود مظهرا من مظاهر الحضارة، أما المذموم الفظ فهو مظهر البداوة. وليس معنى ذلك أن كل خلاف بدوي من سماته التعصب والجفاء، وأن الحضاري سمح ودود بالإطلاق، فقد تنعكس القضية . يقول المرحوم المختار السوسي منوها بأدباء وفقهاء بادية إلغ والتزامهم بآداب الجدل والمناظرة والخلاف: ” ثم إن من آداب الإلغيين في المناظرة أن كل هذا – النقاش- يدور بتؤدة ووقار وحسن استماع ومجاوبة بكل أدب واحترام، ولو كانت هذه الأبحاث عند غيرهم؛ لقاموا وقعدوا وتهارشوا وتسابوا… فليحفظ الله الإلغيين وأدبهم. والاختلاف لا يضر، وإنما تضر المداهنة، بيد ان الحق نفسه كفيل بأن ينبلج ناصعا لكل أحد، وإن بعد حين، وقد تدوولت مناقشات شتى، ثم انقشعت عن قلوب متلاءمة وأنفس متوادة”

arArabic