د . مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي – مراكش
الحلقة الحادية عشرة : حين اختصر البحث في التصوف على مفاهيم الولاية والكرامة نماذج من كتب المناقب والتراجم – كتاب التشوف للتادلي في الميزان
ارتأيت لتميم محور المصاحبة النقدية للمعرفة الصوفية أن أخصص الحلقتين المتبقيتين ، قبل الحلقة النهائية ، أي هذه الحلقة ( الحادية عشرة ) والتي ستأتي بعدها ( الثانية عشرة ) لنماذج من كتب المناقب والتراجم الخاصة بالسادة الصوفية بغية الوقوف على ما نخر تلك المعرفة المذكورة من ضعف وتخبط ، وابتعاد عن المسار الصحيح كما عهدناه عند فحول علماء التصوف ، وكما مرت بنا تفاصيله الفكرية المتزنة في الحلقات السابقة ، مع قصد آخر وهو تتبع المعرفة المذكورة في مختلف مسارات التأليف فيها ، وستكون هذه الحلقة خاصة بما جاء في كتاب : ( التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي ) لأبي يعقوب يوسف بن يحي التادلي المعروف بابن الزيات ( ت : 617هج ) وسأخصص الحلقة المقبلة لكتاب : ( المواهب السارية في مناقب أبي شعيب السارية ) لمؤلفه محمد بن إدريس القادري الحسني ( ت : 1350هج ).

يخيل لقارئ كتاب التشوف أنه كتاب خاص بالأولياء وأصحاب الكرامات حتى إنه ليدخل في خلَده أن معنى التصوف اختصر في البعدين المذكورين ، وبصيغة فيها الكثير من المبالغة والادعاء الفاقد لليقين الشرعي ، وللأساس العلمي المؤيد ، مما يحتم على القارئ وجوب الانتباه والاستعداد لمزيد من الاستغراب .
كنا نجد في مؤلفات التصوف المتقدمة كما دلت عليها الحلقات السابقة معرفة متزنة ومتنوعة ومتجددة ، تخاطب الفكر والوجدان ، وتتخذ من السلوك ونهج التربية سبيلا لمعالجات آفات الإنسان ، وسوقه إلى جادة الصواب والفلاح ، والآن تغير الوضع ، وأضحى المطلوب هو البحث عن الولاية والكرامات ، مما يجعل القارئ يتساءل : هل ما كتبه التادلي وأشباهه يعتبر دالا على حقيقة المعرفة الصوفية ؟ وهل نعده المقصد الأسمى لتلك المعرفة ؟ وهل نعتبره النموذج العملي المطلوب لتحقيق معاني جميع قواعد التصوف المختلفة ؟ وإلى أي مدى يمكن أن يُتخذ زمن ومضمون الكتاب مقياسا للدلالة على ازدهار وتحقيق المضمون الصوفي المرجو ؟ .
أسئلة ستبقى بلا جواب ما دامت دراستنا لمثل مضمون كتاب التشوف تقوم على الإذعان التلقائي لكل ما يروج في ساحة التصوف ، وما دام الناس المنتمون والمحبون يجتهدون في إظهار الولاء الأعمى بدون أية مراجعة ، أو نقد ، أو حتى تساؤل صغير يناسب حجم بعض المنتمين العلمية .
سأبدأ مقالي بملاحظة أبداها المحقق الأستاذ أحمد التوفيق ، وأوردها في الصفحة : 14 من مقدمته للكتاب ، يقول : ( ويجوز لنا أن نتساءل عما إذا كان التادلي قد ترجم لجميع الزهاد والصالحين الفضلاء في المنطقة التي اهتم بها في المدة التي تناولها ، فلماذا لم يُدرِج في كتابه ترجمة القاضي عياض مؤلف الشفاء رغم منحاه الزهدي ، ولم يترجم للسهيلي صاحب الروض الأنف ؟ وماذا يقصد عندما يذكر أن الفقهاء قد ظهر عوارهم بصدد قضية الإحياء…..) .
ما قاله الأستاذ المحقق هو نوع من الأجوبة الممكنة عن الأسئلة المتقدمة ، وكذا على مقصود التادلي من التصوف ، فالقاضي عياض ، والإمام السهيلي رحمهما الله هما عالمان كبيران ، وصوفيان متزنان بمعاني المعرفة المطلوبة ، والمتجانسة مع قواعد الدين في أغلب محصولها ، وأنهما قد ابتعدا عن مفاهيم الولاية والكرامة بمنزعهما الذاتي السلبي .
ويظهر مما جاء في كتاب ( التشوف….) أن التادلي رحمه الله قد وقع له خلط في تحديد المقصود بالأولياء ، فتارة يشير إلى المفهوم الصحيح ، المشاع عند أهل العلم من المتصوفة ، كقوله في بداية كتابه ، الصفحة : 34 : ( وسميت هذا الكتاب بالتشوف إلى رجال التصوف وإن كان مشتملا على أضراب من أفاضل العلماء والفقهاء والعباد والزهاد والورعين ، وغير ذلك من ضروب أهل الفضل ، فإن اسم الصوفي يصدق على جميعهم بوضع هذا الإسم عند المحققين……) .
موقف إيجابي ، وله مستنده العلمي عند أهل التحقيق كما سماهم ، ولكن هذا الموقف لم يدم عليه التادلي ففي الصفحة : 45 يتحدث عن الأبدال ، راويا حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلما مات منهم واحد – الأبدال – أبدل الله مكانه من المومنين واحدا ، بهم يُحي الله الموتى ، وبهم يصرف الآفات عن الأرض ، وبهم يُميت الأحياء ، وبهم يسوق الماء إلى الأرض الجرز ، قالوا : يارسول الله فبما به نالوا ذلك ، أبالصوم والصلاة ؟ قال : والذي نفسي بيده ما نالوها بصوم ، ولا صلاة ، ولكن نالوها بسخاء الأنفس ، وصدق الحديث ، وسلامة الصدر ، وسلامة الصدر ، وسلامة الصدر ، قالها ثلاثا……..) .
في كيفية التعامل مع مثل هذه النصوص الحديثية يجب على القارئ أن يستحضر ما يلي :
1 – أن ينتبه إلى أن أكبر المواضيع التي زيد فيها ، ووضع فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو موضوع التصوف لأسباب عديدة ، على رأسها البحث عن المسوغ العلمي ، ودعائم الإقناع لادعاءات النفوس الخبيثة .
2 – إن ما روي عن الأبدال فيه تعارض واضح مع قواعد الدين الصريحة التي تُعلي من مقام الصلاة وغيرها من الواجبات المشتركة بين كل المسلمين ، وما يراد به تنزيه النفس بوسائل وطرق غير معلومة السند ، فكيف يمكن أن نفهم سخاء النفس ، وصدق الحديث ، وسلامة الصدور من إنسان لا يصلي ، ولا يصوم ، ولا يزكي……فإن أي إنسان مومن يكون صادقا مع ربه أولا ، لا يمكن أن يصل إلى المراتب النفسية المذكورة إلا بتوفيق وعناية من الله تعالى ، وبعمل صالح ودائم من مثل الصلاة والصوم وغيرهما ، يتقرب بها إلى خالقه لعله يمن عليه بالحظوة المرادة .
3 – أهل التصوف ممن لهم ميل إلى شهوات أنفسهم المضرة يميلون إلى مثل هذه الطرق الملتوية ، ويكثرون من الحديث عن أمور الخفاء والتميز حتى يدعون لأنفسهم ما يريدونه من خوارق وكرامات ، ويجدون متكأ عندما تحدثهم أنفسهم بالوساوس والمنزلقات المتناقضة حتى مع أحكام الدين ، وقد رأينا في الحلقات السابقة كيف تصدى علماء التصوف لمثل هذه الادعاءات ، وسَأُذَكِّر القارئ ببعض تلك النصوص الرافضة للادعاءات النفسية ، الموغلة في التخفي ، وسأقتصر منها على ما ذكره الشيخ ابن عزوز المراكشي كما مر بنا في الحلقة الثامنة السابقة .
وما قلناه هنا يصدق على باب الولاية ، فالتادلي رحمه الله ساق من بين ما ساق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ) ثم انتقل إلى المرويات التي تشيد وتعتمد على نبرة الخفاء والتخفي في ممارستها الصوفية ، يقول محدثا عن محمد بن محمد بن أبي القاسم قال : ( سمعت أبا زيد الدقاق ، وكان رجلا خيرا يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم عند أحد أبواب مراكش ، فقلت له : يا رسول الله ، أفي هذا البلد أحد من الأولياء ؟ فقال : فيه سبعة ، فقلت : يا رسول الله من هم ؟ فقال لي : هؤلاء ! فإذا بسبعة رجال خروج ” هكذا في الكتاب ” من الباب ما عرفت منهم إلا أحمد بن محمد الغساني – راجع الصفحات 31\32\33 ).
مسألة الأسباب الخفية في ادعاء الولاية كما جاء في النص تطرح إشكالا كبيرا يتمثل في تحديد معايير الولاية ، وكيف هي ؟ وبم تنال ؟ ومن هو الأجدر بها ؟ ومن الأجدر منا في الشهادة بها لشخص آخر وإن بلغ ما بلغ من درجات الصلاح ؟ وما علاقتها بقواعد الدين ، أتؤسس على الممارسات العامة ، المأمور بها جميع المسلمين ؟ أم على الممارسات الذاتية الخفية التي لا تدرك إلا بالأحلام والتهيؤات ، ويمكن أن نضيف الاعتقادات الخاطئة ، والارتباطات العاطفية الخاصة ؟! .
ومن أدوات التخفي والهروب إلى الأمام تركيز بعض المتصوفة على مفهوم الإحسان ، وتحويله إلى مفهوم خاص بهم ، يُلبٍسونه من المعاني ما يتلاءم مع مرادهم وادعاءاتهم المضللة والمزرية التي تتماشى مع أوهامهم وأحلامهم وخيالاتهم المعوجة .
ملاحظة أخرى تتعلق بتحقيق الأستاذ أحمد التوفيق لكتاب التادلي ، فالتحقيق شابته نواقص متعددة ، منها تركيز المحقق على المعرفة التاريخية فقط ، وبمحدودية ضيقة ، ومنها ترضيته لإيمانه بهذا النوع من التصوف ، فعلى صعيد المعارف يتطلب مضمون الكتاب أنواعا أخرى من البحث المتصل بالحديث والتفسير والفقه والأصول…..وغيرها ، فالتركيز على المعلومات التاريخية وبالاقتضاب الملاحظ كان من أسباب الخلط في الفهم والإدراك ، وحَرَمَ القارئ من المقارنات المعرفية الواسعة والمكنة ، كما حَرَمَه من تملك أسس الفكر المُسعِفة على استقامة الأفكار في الأذهان ، والوصول إلى جادة الارتياح واليقين العلمي ، فمثل نصوص التادلي توجب التحقيق ، والإحاطة بها من جميع زوايا المعرفة الواجبة ، حتى نتخلص من كل الفهوم الخاطئة والمُتَوَهَّمة ، وما أكثرها في الكتاب ، وسأذكر أمثلة جديدة لها في سياقاتها المقبلة ، وبهذه المناسبة أدعو المهتمين بحركية التصوف المغربي خصوصا أن يعيدوا التفكير الجدي والضروري في مضامين كتاب ( التشوف……) وأن يسارعوا إلى تحقيقه تحقيقا علميا متكاملا ، يليق بأفكاره المتعددة ، وعلومه المتنوعة ، ويتلاءم مع ما تقتضيه معارفه الكثيرة والمختلفة ، ويساير ما ظهر من مصادر ومؤلفات في الأزمنة الموالية لزمن التحقيق القديم .
ومما يتصل بكتاب التشوف من جهة المضامين يمكن الإشارة كذلك إلى مأخذ آخر وهو أن اهتبال التادلي بمفهوم الولاية كما تعامل معها ، وبأمثلتها المتعددة والمتكررة قد ضيقت مجالات الكتاب التي كانت ستكون أرحب وأشمل لو صار فيه على نهج من سبقوه في موضوعه ، وفي موضوع المعرفة الصوفية الشاسعة بصفة عامة ، فمضامين الكتاب المتبقية دارت كلها حول الأولياء وأحوالهم وكراماتهم…..مع أن مفهوم الولاية هو أكبر من ذلك ، وأشمل لجهات عديدة ومتنوعة داخل الحقل الصوفي الكبير .
إذا أردنا التعريف بمحتويات الكتاب فعلينا أن نحرص على إيراد أمثلته بتنوع ، فبها سيمكن فهم معنى الضيق والتضييق على المعرفة المذكورة فيه ، فَهَمُّ التادلي حُبِس ، وأُقصِر على أمثلة الولاية المتصلة بالشفاء والتبرك والخرق والدعاء…… وبصيغ تدور في فلك الذات ، ولا تنفلت من تأثيرات التدخل والتوجيه لأدلة الخفاء والتخفي ، ففي تراجم الأولياء في الصفحتين : 83\84 يقول عن أبي عبد الله محمد بن سعدون بن علي بن بلال القيرواني : (…….وأهل أغمات إلى الآن يستشقون بتراب قبره…….) .
ومن طرق الشك التي تقال لإثبات الولاية لشخص ما ، وإقناع الناس بها ما ورد في الصفحة 86 حين حدث أن أبا محمد عبد العزيز التونسي كان ينكر إتيان الناس لزيارة أبي عبد الله الرجراجي ، والتبرك به إلى ( أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فأمره بزيارته فقصده حينئذ عبد العزيز…….) .
وأحيانا سيلاحظ القارئ أن الخبر المسوق لا يرق إلا رتبة الإثبات لصاحبه صفة التبرك ، وليس له صفة القول الفصل للإفصاح والتعبير عن حقيقة الولاية ، أي عندما تكون حالة المُترجَم له عادية ، وتدخل في إطار الطبائع المختلفة بين الناس كقوله في الصفحة : 113 عن أبي محمد خميس بن أبي زرج الرجراجي الأسود : (…… وكان يقال إنه من الأبدال ، وإنه ممن لقي الخضر عليه السلام ، وأقام أبو محمد خميس ما ينيف على عشرين سنة لا ينام ليلا ولا نهارا إلا وقت وقوف الشمس عند الزوال ، فإذا زالت انتبه للصلاة ، وكان لا يأكل إلا الزرع الذي تناول حرثه بيده وحصاده ودرسه…..) .
أما صفة الخرق فسأكتفي فيها بمثال ورد في الصفحتين : 115\116 ويخص أبا عثمان سعد بن ميموناسن الرجراجي ، قال عنه إنه : ( …..فقيه المصامدة الآن ، ومفتيهم……وحدثوا أن مؤذن مسجده طلبه ذات يوم بداره فلم يجده ، فذهب في طلبه إلى البحر فوجده نائما على لجج البحر وفي يده كتاب تعبث الرياح بأوراقه ، ولا يصل إليه من رشاش البحر شيء ، فأراد المؤذن أن يصل إليه ، وشرع في دخول البحر ظانا أن العبور إليه سهل ، فغلبه الماء ، وخاف على نفسه الغرق ، فخرج وقعد على شاطئ البحر ينتظره ، فلما أفاق أبو عثمان من نومه خرج من البحر ، فلما علم أن المؤذن قد رآه قال له : يا فلان عاهدني أن لا تحدث أحدا بما رأيت حتى أموت ، فعاهده على ذلك…….) .
من يثبت لنا بالدليل من مات قبل الآخر ، هل الإمام أم المؤذن ؟ إنه المسكوت عنه الذي يدخل في إطار تلك العلاقات العاطفية المُتَوَهَّمَة والمٌلتبَسَة بين كثير من الناس في الأزمنة الماضية .
أريد أن أوضح أشياء كثيرة تناسب المقام الخاص بالمعرفة الصوفية ، وكذا مما جرى من كلام في تحقيق بعض جزئيات كتاب التشوف…….فالشيء الأول هو أنني أؤمن بمعنى الولاية في إطارها الشرعي والعقلي الواضحين كما يستشف من قصة الخضر عليه السلام ، وأرفض بالمقابل متاهات التدجيل الذاتي على الناس بسبب الجهل والضعف ، واستخدام المفاهيم الدينية النقية لأغراض شخصية بدعوى الولاية والكرامة بزيف ومكر ، فلو كانت الأمور صحيحة كما حكاها التادلي في مؤلفه لبقي مفعولها إلى يومنا ، ففي عصرنا آفات عديدة تستدعي بركة الأولياء ، وخرقهم للحواجب والفضاءات بلغة اليوم ، فأين هم ؟ ولماذا لم نعد نعرفهم ، ونذهب إليهم للتبرك ورجاء الحلول لمشاكلنا العويصة كما كان يفعل آباؤنا وأجدادنا ؟ .
وهناك ملمح آخر للمناقشة يتمثل في طريقة إثبات الولاية والكرامات لأصحابها ، وأشترط فيها على الأقل أن تثبت بالتواتر ، وبصفة الدوام ، وتحرص على النفع العام الذي يصل أثره لكل الناس ، وليس بقول ، أو شهادة متفردة ، ومن طريق واحد متكرر ، فاقد للمعطيات العلمية المُعَضِّدة له ، يتبادلونه المترجمون بعبارات محفوظة في كتبهم المختلفة .
ثم إنني أريد أن أذكر القارئ بكتاب رزين ومتزن ومعتدل في موضوع الولاية والكرامة ، اطلعت عليه قديما ، ولا زلت أرجع إليه في مناسبات ، ينسب لمؤلفه الإمام أبي القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي ، المتوفى سنة 418 هجرية ، المسمى : ( كرامات أولياء الله عز وجل ) ففيه تفصيل للأدلة والأمثلة منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين…..وللأسف فلالكائي ذكره الأستاذ التوفيق في تحقيقه عبر إثبات اسمه في بعض الهوامش ، ولكنه لم يذكر مؤلفه السابق المناسب لسياقات الولاية والكرامة ، ولعله لم يرجع إليه .
سأختم بما وعدت به القارئ وهو التذكير بمجموعة من نصوص أهل التصوف العلماء المحققين الذين ناقشوا الموضوع بهدوء وحياد وعلم ، حذروا من ثقافة الخفاء والتخفي ، والعواطف الذاتية الجياشة النابعة من بواعث النفوس المريضة بزعم الولاية والكرامة ، وسأقتصر على ما ذكره عالم متأخر هو ابن عزوز المراكشي ( ت : 1204هج ) في كتابه المفيد ( تنبيه التلميذ المحتاج ) وقد سبق أن تحدثنا عنه في الحلقة الثامنة التي خصصناها للعالم المذكور ، يقول في الصفحتين : 105\106 : ( قال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه : لو نظرتم إلى رجل أُعطِي من الكرامات حتى يرتفع في الهوى فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود ، وأداء الشريعة ، فاتباع القدم المحمدي نعمة وأي نعمة ، والزيغ عنها نقمة وأي نقمة ، فإن شؤم هلاك الدين لا يعادله شؤم ، ونعوذ بالله من ذلك……) .
ويقول في الصفحتين : 265\266 : ( ثم ظهر في آخر الزمان قوم يَدَّعُون الولاية بغير علم ولا عمل ، فشَرَّعُوا للناس تشاريع ، وألزموهم شروطا قواطع ، ونَزَّلوا أنفسهم لأصحابهم وتلامذتهم في منزلة الربوبية ، واعترف لهم الأصحاب والتلاميذ من جهلهم بمحض الخدمة والعبودية ، والشيخ بالوهم ، وعدم العلم والعمل ، يزعم ويعتقد أن ما اصاب المريد والتلامذة من خير وشر فمن أجل خدمتهم له ، ومحبتهم فيه ، وما أصابهم من شر فمن أجل تفريطهم في خدمته ، وميلهم في بعض الأحيان عن صحبته ، والتلاميذ والأصحاب معترفون للشيخ بما في وهمه ، وواقفون عندما في زعمه ، وخالفوا ما ذكر الله العظيم في كتابه العزيز : ” ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ” فوقعوا جميعا بمخالفتهم للكتاب والسنة في الشرك والبدع ، ونصَبوا جميعا أنفسهم على مجانيق الخداع والخذلان ، فصار الشيخ وارثا لفرعون في حالته ، ومستخدما لعباد ربه بشهرة دعوته ، وصار التلميذ وارثا لهامان في عبوديته، ومنتبها له في نشأته……) .
ويقول في الصفحة : 293 : ( وقال الجنيد رضي الله عنه لرجل ذكر المعرفة عنده وقال : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر ، والتقرب إلى الله تعالى ، فقال : إن هذا القول عند قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، فالذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا ، فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله ، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها……….) .
أكتفي بهذه الأقوال المقبولة شرعا وعقلا وعلما وتصوفا ، انتبهت للظاهرة القديمة الخطيرة في الحاضرة الصوفية ، ومن يريد التوسع أكثر فليراجع جميع مصادر التصوف ، ولاسيما عند العلماء المحققين النزهاء من المتقدمين والمتأخرين ، ممن كان لهم علم ومعرفة دقيقة بمعاني التصوف الأصيلة ، وسلكوا طريقا منجيا ، ومقربا من الله ، ولم يتخذوا منها وسيلة للادعاءات الباطلة التي تستغل جهل الناس وضعفهم الفكري ، وتوظف لتسويق أمراض النفس وعللها باسم المعرفة الصوفية ، وهي في حقيقتها وأصولها براء من ذلك كله ، لأنها في عمقها وصيروراتها التاريخية نتاج فكري أصيل ، ليس فيه ما يتناقض مع شريعة الله السمحاء .
( يتبع )