د . مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي – مراكش .
الحلقة الثالثة : تفكيك الشيخ أحمد زروق لخَلَلِ المعرفة الصوفية

الشيخ أحمد زروق رحمه الله كان حكيما بمقدار كبير في معالجته لخلل المعرفة الصوفية ، وكان دقيقا مقارنة بأقرانه ، ممن تخصص بالموضوع المطروق ، بالإضافة إلى أنه تفوق في تلخيص الأمراض ، وتَعدادها ، وتحليلها تحليلا شاملا وصائبا على مستوى النفس والسلوك ، ولدى جميع أعمال ومراحل التصوف ، وكتابُه ( إعانة المتوجه المسكين إلى طريق الفتح والتمكين ) يعتبر عمدة في بابه ، ويمكن أن يستنتج القارئ من دلالات العنوان فقط فحوى الكتاب كله ، وأنه إعانة فعلا ، ومساهمة منه في توضيح الكثير من الآفات والسقطات ، المعترضة ، ويريد في النهاية أن يصل برجال التصوف وغيرهم إلى المقصد الأسمى .
وقد وضع أمامه هدفين كبيرين هما : الهدف الأول هو لفت انتباه أهل التصوف ، وتحذيرُهم من المخاطر والانزلاقات الممكنة في طريق السلوك ، والثاني مستفاد ، وموجه للعموم ، وساقه على شكل قواعد عديدة ، أصيلة وثابتة ، تقول بأن التصوف ليس سهلا في معرفته ، وأفعاله ، ومعركته المتكررة والحادة ، والمستمرة مع النفوس ، ولن يقدر عليه إلا من كان مخلصا صادقا ، وذا وعي وخوف من الله تعالى .
يمكن أن نميز في كتاب الشيخ زروق بين عدة مستويات من المعالجات لقضية اعوجاج المتصوفة ، والشيخ المذكور ركز على القلب بدل النفس ، وجعله محور مخاطبته ومناقشته ، وهذا يخالف ما رأيناه عند ابن عربي في الحلقة السابقة حين استعمل تعبير النفس في أماكن معالجته لآفات التصوف ، وهو نوع من التكامل بين الرجلين ، وتنويع لمقتضيات المعرفة الصوفية بحسب الثقافة ومكمن العلل السائدة في كل عصر .
هكذا سيسهل علينا الإلمام بمحتويات الكتاب المذكور ، وسنتمكن من الوقوف على أهم معالمه بشكل متدرج كالآتي :
1 – افتتح زروق تحليله ومعالجته بكلام عام يتضمن الحقائق والقواعد الكبرى التي يجب على المتصوف أن يعرفها ، وأن ينطلق منها ، يقول في الصفحة : 15 : ( أما قبل كل شيء ومعه وبعده ، فليس على الحقيقة إلا الله تعالى وحده ، من تمسك بحبله المتين ملك ، ومن حاد عن بابه الكريم هلك ، إذ لا عاصم من أمره إلا من رحم ، ولا هداية إلا من هو بحبل الله يعتصم ، فيصل الحقيقة بالشريعة بعد التنصل من كل قبيحة وشنيعة ، مؤثرا للسلامة في طريقه ، قائما بالقسط على بساط تحقيقه ، بذهن سليم حاضر ، وقلب منيب لمولاه ناظر ، يضع كل شيء في محله ، ويحقق العلم والعمل بأصله……..) .
2 – جوانب التقويم : وفيها يركز على القلب ، ولعله يستند في ذلك إلى ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه عن الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألاَ وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحارِمُهُ، ألاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ ) .
وأنواع القلوب عند الشيخ زروق ثلاثة هي : ( قلب في حاله صحيح ، وفي خطابه فصيح ، فصاحبه ينطق بالحكمة ، وينهض في كل ملمة ، والثاني قلب لا حياة فيه ، فهو لا يقبل التذكير ، ولا التنبيه ، فضلا عن اتباعه للحق ، أو تأدبه مع الخلق ، والثالث قلب اعترته في حياته أمراض ، وصحبته في أحواله اعتراضات وأغراض ، فعرض له الإعراض مما عرض ، وهو الذي يتألم عند ذكر ما به من مرض ، وهو الذي يُقصَد بالمداواة ، ويُرصَد بالمعاناة ، رجاء استقامة حياته ، أو توقف العلة حتى لا تؤدي لمماته…….ص : 17 ) .
وفطنة الشيخ زروق تظهر في تفصيلاته لأحوال النوع الثالث من القلوب بين ( أن تكون الحياة غالبة عليه ، والمرض تابع…) أو أن يكون ( المرض غالب والحياة ضعيفة …… ) أو أن ( يتكافأ السقم والصحة بوجه يمكن تقوية أحدهما معه…….ص : 17\ 18 ) .
ولكل نوع درجات من العلاج تناسب مقدار النجاة ، أو الخوف من العوارض المحيطة ، والعلل المعضلة بحسب تعبير زروق رحمه الله .
3 – التحذير المفتوح من النفس : والكلام هنا يهم النفس عند شعورها بالكمال ، وهو مقام مهلك لصاحبه إذا لم يكن فيه مُجَدِّدا للإنابة والرجوع إلى الله تعالى بصفة متكررة ودائمة ، يقول في الصفحة : 19 : ( فلا تأمن نفسك بحال ، ولا تغفل عن حفظ ما حصل لك من الكمال ، وجدد الإنابة والتوبة لتحفظ بها صحة الرجوع والأوبة ، وعالج أمراضك بما تراه يبريها ، وذلك بأن تجلب لنفسك ما يزينها ، وتصرف ما يرديها ، وبالله سبحانه التوفيق…) .
مثل هذا الكلام هو ثمار لتجربة صوفية طويلة وصافية ، ومتحكم فيها بالعلم والمعرفة ، وتنتبه لأماكن الزلل والخطايا لدى كثير من المتصوفة ، ممن غَرَّت بهم النفس ، ووقع في قلوبهم سهو أو زيغ عن الطريق ، وانطلقوا في رحلة ضلالية ، وضعوها لأنفسهم ، واستكانوا إليها ، وحملوا عليها المريدين ، وغرسوا في قلوبهم الشطط والخوف ، ومالوا بهم عن الله تعالى ، وعما يقتضيه دينه بداعي انهم وصلوا إلى درجة الكمال المزعوم ، وما وصفوه بالكمال هو انحراف شيطاني ، يخرج العبد من دائرة العبودية لله ، ويسقطه في مذلات النفس والأهواء ، ويبعده عن الشريعة السمحاء ، المفتاحِ الأول للصلاح والإيمان والتصوف الإيجابي المنقذ للإنسان .
ولم يكتف الشيخ زروق بما تناوله في النقط الثلاث السالفة ، مما يتعلق بأحوال القلوب ، وإنما زاد مقدارَ التفصيل ، وكَمَّ التحليل لسبب يبدي المزيد من أهمية الانتباه للقلوب ، فهي قطب الرحى في التصوف ، وفي كل الدين على نحو ما رأيناه في حديث النعمان بن بشير الفائت ، ولهذا سيكون التفصيل الجديد مختصا بباب الآداب كما يعرفه ويزاوله المتصوفة ، يقول في الصفحتين 61\62 : ( واختص مذهبهم – المتصوفة – في الآداب بأصل ترجع إليه مفترقات أحوالهم ، وهو اعتناؤهم بإفراد القلب لله تعالى دون ما سواه ، فكل ما يحقق لهم ذلك ينتهجونه رخصة كان أو عزيمة ، وإن دخله خلاف عالم ، أو اشتباه لا يقضي بوجود النكير المطلق…..) .
ومكمن الزلل هنا وهذا ما نص عليه زروق نفسه حين لاحظ اعتراضات الناس على ادعاءات المتصوفة ، والغريب العجيب أن الشيخ زروق انتصر لموقف المعترضين ، وذكر أمثلة من خبالاتهم المضرة ، يقول : ( ومن ثم قالوا – المتصوفة – بأمور لم يقبلها منهم من لا يعرف أصولهم ، وهو على حق في إنكاره ، واقتفاها قوم على غير هذا الأصل فضلوا وأضلوا كالسماع والخمول – وهو ترك الأسباب – وترك الشهوات ، والكلام في الخواطر ، والوحدة في الأسفار ، ونحو ذلك فافهم……) .
إنها أهم الآفات كما فهمها ورآها الشيخ زروق ترتكب من طرف متصوفة عصره ، ومن المحتمل الكبير أن تكون هي المتكررة في كل العصور بصيغ تختلف في الأسلوب ، وتتلاقى في العمق ، والسياق يستوجب تذكير القارئ بما قلته في بداية المقال عن دقة الشيخ زروق ، وقدرته على الفهم والتتبع والتفكيك ، واهتمامه بموضوع القلب ، واشترط لسلامته ثلاثة شروط جديدة هي ( أن لا يكون الفعل ، أو القول مخلا بالأصل الذي هو طلب الجمع كالمعاصي الصريحة ، والقبائح المتفق عليها ، والبدعة الصريحة ، أو الإضافية مع ما يحقق الابتداع فيها……….. الثاني تصحيح القصد في التوجه والوجه والبساط والمناط ، فلا يخل بأدب الوقت ، ولا يتوجه قبل التحقق بالإفادة واقتضاء الحال لها ، الثالث الاقتصار على قدر الضرورة من ذلك فيما قصد له ، لأن ما أبيح للضرورة قُيِّدَ بقدرها في الجملة ، والاسترسال مع المباحات مخل بأصل القصد ، وممكن في النفس استحلالها حتى تدعو النفس إلى طلبها ) .
وعن هذا الوجه الأخير يقول الشيخ زروق في تجرد واضح ، ولافت للانتباه ، ومتناغم مع دقته وقدرته على المعالجة والتحليل ، وكأنه وصل بالقارئ إلى الخلاصة النهائية المنتظرة : ( وهذا الوجه هو الذي قعد بكثير من المريدين عن الوصول ، وَرَدًّ كثيرا من الواصلين إلى أسفل سافلين ، وإليه أشار الجنيد رحمه الله تعالى بقوله ليوسف بن الحسين رحمه الله تعالى : ” لا أذاقك الله تعالى طعم نفسك ، فإنك إن ذقته لا تفلح بعده أبدا ” ).
رحم الله الجميع ، وليس بعد ما قيل قول آخر إلا ما جفا الحقيقة ، وحاد عن الطريقة في أصلها وثوابتها كما مارسها أهلها الصالحون ، وكتب عليها علماؤها الأبرار رحمهم الله جميعا.
( يتبع )