الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

المعرفة الصوفية.. وضرورة المصاحبة النقدية ـ ح1: تركيب أولي

د . مولاي علي الخاميري
أستاذ جامعي – مراكش

المعرفة الصوفية تكتنفها صعوبات عدة تجعلها محفوفة بكثير من الانزلاقات المشاهدة في مختلف أزمنتها وأمكنتها ، وقد وقعت فعلا في شراك العديد من الممارسات المسيئة والمرفوضة ، والمتناقضة مع جوهر الدين ، ولهذا تجب المصاحبة النقدية لتلك المعرفة ، وكلما كانت القراءة والتحليل النقدي مبنيا على عمق فكري واضح ، ومؤسس على اختلاط ومساهمة ، وقائم على المعلوم من الدين كلما أمكن مجانبة السقطات والشطحات الملاحظة من لدن من ينتسب إلى التصوف بأهواء مزيفة، ولأغراض دنيوية محضة .

 

 

من حسن حظ المعرفة الصوفية أن مبدأ التقويم والنقد تم على يد علماء أجلاء من الصوفيين ، كل بحسب رؤيته وعلمه وممارسته ، وأكاد أجزم أن جل المتصوفة الحقيقيين كان لهم موقف نقدي ظاهر ومعلوم للعموم ، حتى إنني من كثرة مطالعتي لمثل تلك الأفكار النقدية ، والكتب المؤلفة فيها أصبحت أعد الرأي النقدي شرطا أصيلا في الممارسة والمعرفة الصوفيتين .

الموقف من التصوف يمكن على إجماله أن نقسمه إلى ثلاثة مواقف أساسية هي :

الموقف الأول هو موقف الرفض ، وهذا مجانب للصواب ، وقد مورس من طرف علماء لم يمارسوا ، ولم يطلعوا على حقيقة المعرفة الصوفية ، واكتفوا في أحكامهم بما سمعوه ، أو شاهدوه في عصور اندحار التصوف ، أو ممن نقل إليهم ، وقد يقعون في فخ الفهم المتشدد للنصوص الدينية فتكون النتيجة واحدة وهي رفض التصوف .

الموقف الثاني هو مناقض للموقف الأول ، فيه الكثير من التسيب ، والخروج عن مقتضيات الدين ، والارتماء في أخضان خزعبلات وخوارق ما أنزل الله بها من سلطان ، وهذا النوع انتشر بسرعة ، وغلب على الظاهرة الصوفية بسبب جهل الشيوخ والمريدين والمنتمين بصفة عامة ، وتحول إلى رموز معلقة على الأعناق ، وسبحات وتمتمات ورقصات ، ومرقعات…..وما شابه ذلك ، أي أن الممارسة الصوفية تحولت إلى صورة وشكل ظاهري ، يُكتفى فيه برمق العين دون التفتيش عن الخصيصة الأصيلة في التصوف ، والمتمثلة في عمق الممارسة والفهم ، وإشاعة الطمأنينة والسكون في القلوب ، والبحث عن السلوك الواقي من ضغوط الحياة ، ومن الانفلاتات المضرة بمعنى التصوف .

الموقف الثالث وهو الموقف الإيجابي ، والمُبعَد من الاهتمام والمعالجات في معظم الكتابات التي تحدثت عن التصوف ، وأعني به موقف العلماء الممارسين لحقيقة التصوف ، فكلامهم رزين وجميل ، ويقوم على فهم وتحليل ، ويقدم حلولا للمعضلات المُنتَصَبَة في مجال التصوف ، ولعل أسباب تغييبه وملاحظته ، والاستفادة من منافعه الكثيرة تكمن في الاكتفاء بالنظرات السطحية المنتشرة ، وشيوع الجهل ، وحصر معنى التصوف في الصور المتوارثة ، والممارسات المشينة…….

بناء على ما تقدم سأختار للقارئ ثلاثة مؤلفات أساسية من اختياري ، تدل على سَدَادِ المعالجة النقدية للمعرفة الصوفية ، كتبت في أزمنة متفاوتة من لدن علماء متصوفة ، متمكنين من مجالهم اختصاصا وممارسة ، وشأقدمها له في حلقات متتالية وفاحصة لأهم التجليات النقدية ، الواردة في الكتب المذكورة :

1 – روح القدس في محاسبة النفس للشيخ محي الدين ابن عربي : ( ت : 638 هج ) .

2 – إعانة المتوجه المسكين إلى طريق الفتح والتمكين لأبي العباس أحمد زروق ( ت : 899 هج ) .

3 – تنبيه التلميذ المحتاج لعبد الله بن عزوز المراكشي ( ت : 1204 هج ) الشهير ببلة بن عزوز ، والمدفون بحي باب هيلانة ، درب الحمام ، وللأسف ضريحه مهدوم هدما تاما ، ولحد الآن لم تلتفت إليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، وتعيد بناءه على غرار الكثير من الزوايا والأضرحة .

وسيرى القارئ في الأخير كيف كانت النظرة النقدية ، المبنية على العلم والفهم واحدةً في مضامينها ونتائجها الجوهرية ، تتابع الظواهر ، وتُرَغِّبُ في الصلاح والأصلح ، وتقف في وجه الشائن من الممارسة الصوفية ، مما يجعل من قولنا في العنوان أعلاه بضرورة المصاحبة النقدية للمعرفة الصوفية أساسا وركيزة للوصول والوقوف على الفهم الصحيح لمعاني التصوف .

سأختم هذه الحلقة الأولى بإثبات بعض النصوص العامة ، المشابهة لما قلناه لحد الآن ، تنشيطا لذهن القارئ ، وإشعارا له بما ستتضمنه مفصلا الحلقاتُ القادمة ، وخلخلةً أولية لمثل المواقف المتعارضة ، مما ألمحنا إليه أعلاه ، وهي خلخلة تشبه اليقظة الأولى بعد فترة من الأحلام ، والنوم العميق المفيد والمزعج للروح ، أو الجسد .

النص الأول ورد في كتاب ابن عربي ، يقول في الصفحة : 18 مخاطبا وَلِيَّهُ : ( فالزمان يا وليي اليوم شديد ، شيطانُه مريد ، وجباره عنيد ، علماء سوء يطلبون ما يأكلون ، وأمراء جور يحكمون بما لا يعلمون ، وصوفية صوف بأعرَاضٍ مُوشحون وموسومون ، عَظُمت الدنيا في قلوبهم فلا يرون فوقها مطلبا ، وصَغُر الحق في أنفسهم فأعجلوا عنه هربا ، حافظوا على السجادات والمرقعات والمشهرات والعكاكيز ، وأظهروا السبحات المزينة كالعجائز ، طغام ، أطفال ، صبيان الأحلام ، لا علم عن الحرام يردهم ، ولا زهد عن الرغبة في الدنيا يصدهم ، اتخذوا ظاهر الدين شركا للحطام ، ولازموا الخوانق والرباطات رغبة فيما يأتي إليها من حلال أو حرام ، وشَمَّروا أردانهم ، وسمنوا أبدانهم……….) .

النص الثاني ورد في كتاب زروق ، وهو تأكيد وتصويب لنوع جديد من الانحرافات الصوفية ، وإيصالُ التصوف بمنابعه الدينية الأصيلة كما مورس من لدن أقطابه الأصلاء ، يقول في الصفحة : 60 : ( فالصوفي لا يفارق السلف في مُعتَقَدِه ، ولا يفارق الفقهاء في مُعتَمَدِه ، لأن العقائد رأس ماله ، والأحكام أساس أعماله ، فالمخاطرة بهما ضرر ، والعمل بغير المذهبين المذكورين فيهما غرر ، ثم هم في الفضائل على مذهب أصحاب الحديث ، لما هم عليه في ذلك من التحقيق والتثبيت ، وبهذا الوجه يفهم ما أجمعوا عليه من التزام مذهب المحدثين ، وما يذكر عنهم من أعمال التابعين ، كان ” الجُنَيدُ ” ثَوْرِيا – نسبة إلى مذهب سفيان الثوري – و” المُحَاسِبِيُّ ” شافعيا ، و” والشِّبلِيُّ ” مالكيا ، و ” الجَرِيرِيُّ ” حَنَفيا ، و” الجَيْلاَنِيُّ ” حنبليا ” إلى غير ذلك…….) .

النص الثالث ورد في كتاب ابن عزوز المراكشي وبصيغة واضحة أكثر لعلها تناسب مقدار زلات المتصوفة المتفاقمة عبر العصور ، يقول في الصفحة : 107\108 : ( ومما ضل به قوم وأضلوا الناس بقولهم : إن الشريعة جعلها الله ستارة على الحقيقة لأجل العوام ، وليس المراد من الصلاة إلا الوصلة ، والصيام يراد به الإمساك عن رؤية الصور ، والحج القصد إلى الله ، وعرفات يراد بها جبل المعرفة ، واستدلوا لذلك بعبارات العارفين ، والعارفون إنما أرادوا بمثل تلك العبارات ذكر المعنى الباطني ، فإن كل شيء به ظاهر وباطن ، فالمتمسكون بالظاهر من النصوص فرقة يقال لها ” الظاهرية ” والمتمسكون بباطنها فرقة أخرى يقال لهم ” الباطنية ” والجامعون بين الظاهر والباطن هم أهل السنة والجماعة ، لأن السنة محتوية على الظاهر والباطن ، والجماعة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلهم جامعون بين الظاهر والباطن ، يعني بين الشريعة والحقيقة والطريقة رضي الله تعالى عنهم ، والذين هم على قدمهم الآن جامعون ما بين الظاهر والباطن طائفة الصوفية الأبرار ، والسادات الأخيار ، فإذا سمعوا قولا من أقواله ، مثل قوله : ” إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة ” أخرجوا الكلاب من بيوتهم والصور عملا بظاهر الحديث ، وفهموا من إشارته أن المراد بالبيت القلب ، وبالكلب الحقد والحسد ، وبالصور تصور الغير فيه ، فبادروا لطهارة القلب منهما عملا بإشارة النص ، والإشارة لا تعارض العبارة ) .

نص مهم يحتاج إلى وقفة تأملية خاصة ، لأنه يعبر عن المعنى الحقيقي للتصوف الذي هو الزيادة في الفهم والخير والقرب من الله تعالى ، بوفق مقتضيات الدين في ظاهره وباطنه ، بلا زيادة من ذات طائشة ، أو تصور قبيح يبعد الناس عن خالقهم ، ويلصقهم لصقا يقترب من الخنوع والعبادة بشيوخ جهال ضلوا وأضلوا ، وفتنوا الناس في عقائدهم ، واستغلوا شذاجتهم ، وضعفهم المعرفي ، وقهر ضغوط الزمان عليهم .

والنصوص الثلاثة السالفة تذكرنا بالآفات المتكررة ، وتختضر لنا الهفوات الكبرى المتحكمة باستمرار في مجال التصوف وعبر تاريخه الطويل ، فالخلل إما أن يكون في المصادر ، أو في طرق الفهم والممارسة ، أو يكون بالزيادات القبيحة التي تنبع من وحي علل الذات ، وأنانبيتها وطغيانها وظلمها لنفسها وللدين وللعباد .

( يتبع )

arArabic