د . مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي – مراكش .
الحلقة العاشرة : حين تحولت المعرفة الصوفية إلى مزاعم ذاتية تنشر الجهل بين الناس باسم الكرامات
ماسأذكره في هذه الحلقة سيكون مناقضا لما ذكرناه في بعض الحلقات السابقة ، فالتصوف سينزلق زلقته المدوية من جهة المعرفة والممارسة ، وسيصبح الحال وكأنه مشهد يعبر عن كآبة الإنسان ، تدخلت فيه الذات العليلة ، وغَلَّفته بأهوائها السلبية ، ونفثت فيه جهلها ، وادَّعَت فيه باسم التصوف ، وللأسف انتشر هذا النهج انتشارا واسعا في العصور المتأخرة ، وأضحى هو المُعبِّر والمُمَثِّل للمعرفة الصوفية ، ولا زال يروج في زمننا وإن قَلَّ وهجُه بين الناس بسبب مقدار التعلم والتعقل الذي حازه الإنسان المعاصر ، ومَن يُصِر على التشبث به فهو إما من أهل العمى والضلال ، أو من أهل الدنيا والمصالح.

أحب في البداية أن أذكر مجموعة من الاستنتاجات الأساسية التي وقفت عليها أثناء قراءتي لمضامين المعرفة الصوفية ، وأعتبرها حدا فاصلا بين أصالة تلك المعرفة وزيفها .
فالقارئ يجب عليه ضرورة أن يُفَرِّق بين أزمنة المعرفة المذكورة ، فالسابق المتقدم منها ليس هو المتأخر المُحدَث في المشهد العام دون الأخذ ببعض الفَلَتَات المضيئة كما رأينا مع محمد المدغري الدرقاوي رحمه الله ، ويجب عليه أن ينتبه إلى خصلة أخرى ومهمة وهي أن النقد والتحليل انصب على صلب معاني التصوف ، وقد جرى على كل المضامين مع اختلاف درجات المعالجة ، وأن علماء التصوف الكبار كانوا في مقدمة الدارسين والناقدين ، مع اختلاف مناهج القراءات ، وزوايا النظر ، وتبقى الخاصية العظمى تتمثل في شمولية المعرفة الصوفية لمناحي الحياة والتربية والسلوك ، وتتوخى في مقصدها الأسمى والمستمر الوصولَ إلى غايات الإصلاح الكبرى على صعيد البناء ، ونشدان البناء المتواصل ، ونشر العلم ، وإقامة الصرح الصوفي على أسس فكرية واضحة ، ووضع صحيح سليم ، وإن خالف الزمن المتأخر في ذلك ، ونزع إلى سراديب النوازع الذاتية السلبية العاملة على تكريس ونشر الجهل والتخلف .
هكذا كان الحال وقد تغير كما قلت لأسباب كثيرة ومتنوعة سيدركها القارئ بوضوح عند اطِّلاعِه على فحوى هذا المقال الجديد ، الخاص بمضمون كتاب : ( خرق العوائد واستجلاب الفوائد ) لمؤلفه أبي عبد الله محمد التاودي السقاط رحمه الله ( ت : 1300هج ) .
الكتاب المذكور يُحسَب على التصوف بمفاهيمه المُستَعمَلة ، ومضامينَه المسايرة للنفَس الصوفي الإيجابي والسلبي العام ، ويشكل لي لغزا مُحيِّرا ، فقد صدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ( 1445هج \2024م ) ويقع في جزءين كبيرين ، ويتركب من خمسة أقسام أساسية تتكون من أبواب وفصول ، والقارئ سينتبه أن الأقسام : الأول والثاني والخامس يسودها نهج فكري قريب من الهلوسة ، والاستغراق في معطيات الذات بشكل سلبي ، بينما القسمان المتبقيان : الثالث والرابع وهما الأطول ، يقدمان معرفة صوفية متزنة على مستوى التنظير والبناء ، ومُشابِهة لما فعله السلف الصوفي من قبل ، تَتَّخِذ من شخصية أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أساسا للحديث عن المحبة والتوبة ، وآداب المجالسة ، والطاعات ، والتقوى…….وغيرها مما عهدناه من أسس المعرفة والفكر الصوفي ، وهذا التناقض البَيِّن كما أظهرناه بين أقسام الكتاب المذكورة هو الذي أوحى لي بوجوب خاصية الانسجام التام بين مكونات وأقسام أي كتاب ، واعتبرته شرطا أساسيا لتكون الكتابة موفقة ومفيدة ، وتنبهت معه إلى حجم الصراع الخفي بين فكر الصوفي ونفسيته ، فالفكر يعني العلم والوعي والممارسة الإيجابية الطاهرة ، والنفسُ تبقى قابلة للتغيير ، والانزلاق نحو الظلام والضلال ، وإذا ما مالتِ النفسُ بالفكر يَسقُطُ التصوف في متاهات سحيقة ومظلمة كما سنرى .
يمكن بسبب هذا التعارض الملاحظ على مضمون كتاب ( خرق العوائد واستجلاب الفوائد ) أن يَتَنَصَّلُ بعض الناس والمحبين من التصوف بصفة كلية ، ومن مثل كتاب السقاط ، أو على الأقل مما ضمه الجزء الأول منه ، ومثلُ هذا النفور إن حَدَثَ سيكون بلا تبرير ، ولا يُقبَل ، ولا ندعو له ، لأن المعرفة الصوفية تبقى معرفة متزنة ومنفتحة ، تومن بالفكر الصوفي المتجدد ، والقائم على أسس التربية والأخلاق بمفردها ، أو تتفاعل مع بعض الامتدادات الفلسفية الإيجابية ، ولها الحق الكامل في الحديث عن الكرامات والخوارق ولكن بضوابط محددة ، تكبح تيهان النفس ، وتربطه بما حكاه الكتاب والسنة ، وسنرى في الحلقات المقبلة كيف استغل الفكر المادي التصوف ، وفسره وفق ثنائية الغنى والفقر الماديين تأسيسا على ما جاء من سلبيات في بابي الولاية والخوارق .
ميزة إضافية للمعرفة الصوفية ينبغي أن تُذكَر في سياق ما هو عام من الخصائص ، وهي الأعمق والأوسع في نظري ، وتتمثل في كونها أكبرَ معرفة علمية عرفها المسلمون من جهة التقعيد والتصور ، وإنشاء علم منظم بمضامينه وآلياته الفكرية المتنوعة ، الجامعة ما بين الإسلام والإيمان والإحسان ، والسعي الحثيث لبلورة مشروعها عبر إيجاد روابط فكرية قوية بين الشريعة والحقيقة والطريقة كما أدركها المتأخرون ، ورأيناها بوضوح وتكامل فسيفسائي جميل في كتاب : ( تنبيه التلميذ المحتاج ) لابن عزوز المراكشي رحمه الله ( الحلقة الثامنة السابقة ) بالإضافة إلى ما تتميز به المعرفة بصفة عامة ، والمعرفة الصوفية بالخصوص ، فهي قد تأسست على مشروع فكري جامع لكل مناحي الفكر الممكنة ، وليس له أمد زمني محدود ، ويحاول توطيد معارفه بتواصل وتكامل وامتداد ، وفتح باب للرغبة في التتبع والاستقصاء والاجتهاد بالزيادة أو النقصان ، والدرس والتحليل والنقد .
على ضوء ما مر بنا نُعلِم القارئ بأن بحثنا في كتاب ( خرق العوائد واستجلاب الفوائد ) سنركز فيه على الأقسام : الأول ، والثاني ، والخامس ، مما يعد مرتعا لهذيان نفسي متواصل ، وتطبيقا عمليا لمعرفة صاحبه الصوفية أثناء سفره وصحبته لمجموعة من الأعلام ، وما نتج عن ذلك من قصص وحكايات ومواقف تُظهِر الملمح الفكري ، وسنختصر قولنا ما أمكن مخافة الانسياق وراء هذا الجنوح ، والتأثير على مصداقية المقال من الناحية العلمية ، وحتى لا نُتَّهم بأننا نروج للخرافات المتناقضة مع روح المعرفة الصوفية الأصيلة ، يقول محقق الكتاب عبد الجواد السقاط في الصفحة 25 من تقديمه : ( ولعل الثقافة الصوفية لدى المؤلف كانت حاضرة بدورها في هذا المصنف سواء من حيث المعجم الصوفي الذي وظفه الكاتب ، أو من حيث المصادر الصوفية التي رجع إليها ، أو من حيث ذلكم الكم الهائل من الحِكم والوصايا والأقوال التي أوردها……) .
سأساير مضمون قولة المحقق ، وسأحافظ على مصطلحات أهل التصوف المستعملة بتسلسل منظم كما سنرى من العناوين التالية :
1 – مبحث الرؤى : أكثرَ منها المؤلف كثيرا ، وجعلها مفتاحا لحل مشاكل حياته في السراء والضراء ، ولعل فهمه السيء لمعنى التصوف في الحياة العملية جعله يسقط هذه السقطة الكبيرة ، واعتبار الرؤيا من مشمولات صلاحه ، ومن دعائم المعرفة الصوفية ، وقد مررنا في الحلقات المتقدمة بأهم مصادر التصوف في المشرق والغرب الإسلامي وما وجدنا مثل هذه الانزلاقات ، بل على العكس كانت للمتصوفة الأصلاء مواقف واضحة مع مثل هذه الأفكار ، ومع غيرها مما تهيم به النفس والهوى ، والشيطان ، يقول التاودي السقاط في الجزء الأول ، الصفحة 49\50 وبعد أن سرد معاناة والدته عند وضعه : ( ولما عزم – والده – على إعمال العقيقة للأسبوع وجهت السيدة المجذوبية على والدي وقالت : إن سيدي أبا عبد الله التاودي وقف علي الليلة وقال : التسمية للولد ، والعقيقة له لا تكون إلا عنده بضريحه ، ففعل ذلك ، ثم لما حان وقت الطهارة – الخِتان – تطهرت بالضريح المذكور ، فوالله إني لأنظر إلى الوالد حين يعزم على إعمال كسوة لي للباسي ، أو شراء نعل لرجلي يذهب للضريح السعيد وأنا معه حتى يفرغ الناس من قراءة البردة يوم السبت ، وينصرف الناس كلهم ، ولا يبقى به أحد ، يُخرِج من تحته تلك الحوائج التي أتى بها فيضعها على الضريح ، ويقول : ياسيدي هذا ما اشتريته للولد ، ها هو بين يديك ، فما وافق منه فذاك ، ومالا فلا ، فيحل في نفسه انشراح للبعض منها ، ثم ينصرف من عنده……) .
وابتداء من الصفحة 97 يروي المؤلف أنه رأى ليلة القبض على قائد فاس المشهور البياز نفسه مع بغلة في حفرة عميقة ، وفي أسفلها بئر عميق ( فَضِقتُ ذرعا من ذلك ، واشتَدَّ الكرْبُ بي ، فناديت حينئذ : يا أهل الإغارة ، ويا أهل الإغاثة ، أدركونا فإنا أشرفنا على العطب ، ثم التفتُ حينئذ عن يميني فوجدت سيدنا الشيخ مولانا عبد القادر العلمي رضي الله عنه حاضرا هناك ، ثم قال : ما لك ؟ ما لك ؟ كررها ، قلت : يا سيدي إني قد حصلت هنا ، ولم أجد سبيلا للتقدم ولا للتأخر ، ثم قال لي : هات يدك ، فمكنته منها ، فقبض علي باليمين ، واليسرى قبض بها على لجام الدابة ، ونزل بي وبالدابة إلى أرض فَلاة واسعة الفضاء دون شعور مني كيف وقع في النزول ، ثم التفتَ إلي ، وقال رضي الله عنه : لا تدهش ، الغبرة لا تصل إليك ، ثم غاب عني……) .
أريد أن أنبه القارئ إلى أن المؤلف السقاط أورد انطلاقا من الصفحة 701 من الجزء الثاني الكثيرَ من الرؤى المختلفة ، أثبتها ، ونظر بواسطتها إلى حياته ، وحياة المجتمع…… فليراجعها من يريد المزيد من محتويات الرؤى كما سردها المؤلف ، وأحس بها ، وعول عليها في حل مشاكله الحياتية .
2 – مبحث الحال والكرامات : مصطلحان كبيران ، يُرَوَّجَان في المعرفة الصوفية ، تارة بشكل إيجابي ، يساير المفهوم الصحيح ، وتارة – وهو الأكثر – يتم استخدامهما بشكل سلبي ، ولاسيما من لدن متصوفة العصور المتأخرة ، عصور الجهل والظلام ، وطغيان النفس الأمارة بالسوء .
يحكي المؤلف أنه طَلَّقَ امرأة شريفة بعد أن رُزِق منها ببنت بسبب وسوسة خالته ، وتدخلها لدى أمه لتزويجه بربيبة لها ، فلما أن أراد الزواج بامرأة جديدة كان قد خطبها تدخلت خالته مرة ثانية ، وشيطنت فيما بينه وبينهم فانفصلا وتزوج بالربيبة ، وإذ ذاك أتى إلى من سماه بالحاج قاسم ، وأخبره ( بما وقع له ابتداء وانتهاء ، فغرغرت عيناه بالدموع شفقة وحِلما علي عندما أخبرته الخبر ، ثم داخله حال قوي وأنا أنظر ، ثم قال : والله ثم والله إن الشريفة المطلقة لهي أم البنين دون مَيْن ، ولا بد من رجوعها لمحلها الذي خرجت منه ، وهذه التي عقدتَ عليها لا يكون من أمرها شيء ، ولا ينجح عقدها ، ولا يفلح من كان سببا فيها…….. ج1\57 ) .
يخيل إلي أن هذه الحكاية وشِبهَها – وقد وردت في سياقات تراثية عديدة – يُلجأ إليها بصيغة الحِيلة ، وبدافع تبرير أفعال أي شخص حين يصيبه الندمُ الشديد على ما اقترفه ، ويريد أن يُقنِع نفسه بأمل بعيد ، يتمسح بزمن مضى ، والدليل هنا أن المؤلف صمت ، ولم يذكر هل تحقق له من ذلك الحال شيء أم لا ؟! .
وفي الصفحة 62 من الجزء المذكور يحكي التاودي السقاط حكاية ثانية تدور حول فقده لحائك وسِماط في طريقه لزيارة سيدي قدور العلمي الذي ضحك ( حتى بدت نواجده ، ولاحت في أفق السعادة سواعده ، ) ثم يقول : ( وأيقنتُ بالعطف والقَبول ، وبلغت المنى والسول ، وتلك عناية سبقت في الأزل ، ومنحة ربانية بفضل الله لم تزل ، فالحمد لله الذي تفضَّلَ وجاد ، وأكرمنا بالسعادة ونيل المراد ، وله مزيد الشكر دائما على اتصالنا بهذه الدرة اليتيمة ، والجوهرة الفريدة ، بحرِ الفضل ، وسنا البذل ، واسطةِ عقد الآل ، وقطبِ دائرة الكمال ، ثم قال رضي الله عنه ردا على القائل : ومن أين علمت بأنه قد ضاع له ذلك ؟ لم يضع له شيء ، من أتانا لا يروح إلا ساليَ القلب والفؤاد ، نائلَ القصد والمراد ، فعندما سمعت منه بذلك انشرح صدري ، وطاب فكري ، وذهب عني ما كنت أجده من الحرج والضيق ……) .
مثل هذا النص الحامل للمتناقضات ، يحتار في تفسيره القراء ، فقد تضمن حمدا وشكرا لله وحده على ما أنعم وبذل ولكنه انعرج إلى درك التعلق بالإنسان في الكشف عن الغيب ، وتصويره على هيئة الأمل المستحيل والموعود ، يواسي المؤلف بواسطته نفسه ، وما نتج عنه من إحساس مُرٍّ بسبب حرقة ضياع حائكه ، ولعله توضيح كذلك لتأثير الأقطاب والأولياء الأحياء والأموات في الحياة والإنسان بصفة عامة .
3 – مبحث الكشف : هو نوع من التنبؤ على غرار ما مَرَّ بنا ، وما سيأتي من مصطلحات صوفية غُلِّفَت بشَطَحَات نفسية من وحي الذات والشيطان ، وليس من وحي الله كما سنرى ، يحكي المؤلف أنه لما جلس بين يدي الشيخ عبد القادر العلمي متأدبا ، وسأله عن حال الحاج قاسم التاودي ، قال له : ( ياسيدي إنه قد أثقل ظهره حمل الدين ، وقد ضاق من أجله ذرعا ، وقد أمرني بتبليغ ذلك بعد أداء ما يجب لِعَلِيِّ هذا المقام من إهداء التحية وأزكى السلام ، فقلتُ : وهل يبقى على هذه الحالة ؟ فإنه ليس عنده ما يؤدي به ، ثم قال مجيبا رضي الله عنه : أما في الدنيا فلاسبيل لأحد عليه ، ولا يقدر أن يصل إليه ، وأما في الآخرة فقد أدى الله عنه ذلك ، ثم التفتَ إلي رضي الله عنه وقال : ما لك ضيق الصدر ؟ فقلت له : ياسيدي ، أنت أطلعك الله على ذلك ، ثم جعل يكاشفني رضي الله عنه بأمور باطنة ، وأسرار كامنة لم يكن عَلِم بها أحد إلا الله عز وجل……. ج1\64 ) .
يظهر أن الملء الروحي الحقيقي الذي يدفع الإنسان إلى الطريق السوي في الاعتقاد والحياة قد اختفى في هذه الفترة ، وعوضه فراغ قاتل ، مملوء بالجهل والضلال اللذين تمكنا من النفوس الفاعلة في المجتمع من عامة الناس والمصلحين والأولياء ، والغريب أن هناك ارتكانا قويا لثقافة النسيان والهلوسة الفكرية بالاعتقادات السلبية ، والادعاءات المعوجة ، وهذا ما جعل المجتمع المغربي والإسلامي يفتقد لروح الحياة الواقعية ، ويفقد ناصيتَها المباشرة في التفكير والتدبير ، ويُدفَع إلى الدَّجَل لتبرير العجز المنتشر بين الناس ، والتعلق بأسراب من الأحلام والتهيء النفسي السلبي الصامت والمتحرك ، والقبول في النهاية بالفشل .
4 – حل المشاكل بأوهام الولاية والصلاح : المؤلف التاودي السقاط في كتابه : ( خرق العوائد واستجلاب الفوائد ) يقص علينا حياته ومشاكله ، وبدلا من صوغها في حُلَل درامية على نسق إبداعي معين يستنجد بثقافته المنغلقة ليقص علينا الحكايات المختلفة ، وبرؤى تجمع بعض رموز ومضامين المعرفة الصوفية للأسف الشديد .
ذكرنا فيما قبل حكايتَه مع خالته التي زوجته ربيبتها غصبا عنه ، ثم إنه طلقها فيما بعد بعد أن استرجع زوجته الثانية ، ولم يكن يعلم حملَها منه ، فلما وضعت ضاق من نفقته على ابنته منها إلى أن التقى بالمجذوب محمد بن عبد القادر الحياني الذي طلب منه أن يأتي له بدجاجة ، فلم يجد إلا ديكا ذكرا فاشتراه ، فلما ذبحه وطبخه ، نظر المجذوب إلى آنيته فجعل ( عَالِيَها سافِلَها ، وتقيأ فيها ، ودفعها لهِرَّة كانت بين يديه ، فاشتغلت بأكله وهو ينظر إليها ويضحك حتى فرغت من أكلها ، فقام حينئذ مُسرِعا ، ورفع الآنية فوق رأسه وأطلقها فتكسرت قِطَعا ، ثم بعد يومين مَرِض والد المطلقة ، فبقي مريضا سبعة أيام…….ثم إن المطلقة لما وضعت حملها أصابها انتفاخ في سائر جسدها فبقيت كذلك ستة أيام فماتت أيضا…..وبقيت البنت عندهم أُنفِقُ عليها مدة إلى أن قَدِم علي ذات يوم الرجل الصالح المجذوب سيدي احساين الفطوسي ، فدفع إلي قطيبا ، وطرفا من الحلوى ، وانصرف مهرولا ، فما كان بعد يومين حتى توفيت البنت ، واسترحت من تعبها وهمها ، ثم ما زال مَن في تلك الدار يموتون واحدا بعد واحد حتى خَلَت الدار منهم ، والله حتى الدار لقد سقطت ، وبقيت خرابا إلى الآن ، فالحمد لله على معرفة أهل الله ، والانحياش إليهم ، فإنهم إغارة رضي الله عنهم………… ج1\68\69 ) .
هذا الإنجاز والفتح القوي لم يُعط حتى للرسل وهم أقرب إلى الله تعالى ، واصطفاؤهم معلوم وواضح بالتواتر الواصل بين السماء والأرض ، ومع ذلك نجد من هو أدنى منهم منزلة وإن سلمنا بصلاحهم يتبوءون درجات في سُلَّم الاعتقاد لدى العامة والخاصة من الناس ، هنا تبدو لي ملاحظة أخرى وهي أن تيار الاعتقاد الفاسد قد تَمَكَّن من النفوس ، وأضحى له وزن مجتمعي ثقيل ذهب ضحيته حتى بعض أهل العلم بمعنى المعارف ، فلم يستطيعوا مقاومة تأثيره الجارف ، فخضعوا لمجرياته ، وصاروا من المسوقين له ، والمدافعين عنه سيرا مع التيار كما قلت ، أو طمعا في نيل حظوة لدى العامة بادعاء الولاية والصلاح المزيفين .
5 – مبحث الأسرار المبهمة : جانب آخر من جانب الغموض العقدي ، استولى على النفوس مدة ، وكَبَّل الحياة عن الحركة زمنا طويلا ، وعندما انتشر ظلامه في النفوس تطور واتسع ليشمل كل أنحاء الحياة ، وفي هذا ضرر كبير ، وإطباق عليها من كل النواحي لاسوداد الظلام وشيوعه وتأثيره على العقول الجامدة ، والعيون العمياء ، يحكي المؤلف التاودي السقاط عن شيخه العلمي عبد القادر أنه سأله : ( أتريد الأكل ؟ قلت : نعم ، فدفعه إلي ، وقال : كل هنا ، وأنا أنظر إليك ، فشرعت في أكله – يعني عنقودا – حتى أتيت على آخره ، حتى على زبله ، ثم سألني رضي الله عنه : هل فرغت من الأكل ؟ قلت : نعم ، قال : وأين الزبل ؟ قلت : زدته أيضا ، فقال : هنيئا لك يا ولدي ، لك البِشارة والعناية إلى الأبد ، فقبلتُ حينئذ يديه ورجليه ، وهكذا قال لي عند أكل الكسكس بين يديه ، كلما نظر إلي يجدني قد اكتفيت ، فيأمرني أن أشرب من مائه الذي بشرب منه ، فأجد خفة في بطني ، وأزيد في الأكل إلى أن قال رضي الله عنه : بطنك كبير ، لا يشبعه شيء ، فلن تبرح من هنا حتى تأتي على آخره ، ففعلت وتعجبت من نفسي أني أقدر على ذلك لكن محل السر خارج عن الفهم……ج1\64 ) .
عبارته الأخيرة ( لكن محل السر خارج عن الفهم ) تصل بنا إلى نهاية تهاوي النفس البشرية في درك الانحطاط الفكري والعقدي ، وتوهم بأن الإنسان أصبح يقبل كل أمر باسم الولاية والصلاح حتى ارتقى إلى أسرار ، تَستعصي عن الإدراك والتصور من لدن الفاعل والمفعول ، وهذا يقودنا إلى سؤال عريض هو : هل قَبول الإنسان بمثل الفكر الفائت ، واعتبارُه ثقافة وتصوفا يعطينا تصورا متكاملا عن حجم العجز الذي جثم على نفوس النخبة العالِمة ، وتحويلِ تلك المرويات إلى إدراك لفهم ما يجري في المجتمع ، وفتح مجال ذاتي ، غير واضح لتوفير مساحات أخرى للفهم والاستيعاب ؟ .
إذا كان الأمر كذاك فمعناه أن طوقَ الدجل قد استحكم وتمكن ، وفعل فعلته الكبرى بالنفوس ، وحَوَّلَها إلى مجرد كائن خانع ، تجري عليه الأحداث بلا أثر ، ولا استفادة ، ولا تعليم يؤهله للفهم ، ولا ضموح يجره إلى تغيير مجريات حياته وإن كانت بسيطة ومستطاعة .
أمر آخر أريد أن أنبه إليه وهو شخصية الشيخ العلمي عبد القادر ، فما أعرفه عنه ومن خلال شعره في الملحون هو رجل له تَعلُّقٌ كبير وصاف بالله العلي العظيم ، ومَحبَّةٌ جارفة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وشعرُه في التصليات والمدائح النبوية يشهد على ذلك ، وقد أصيب في حياته بابتلاءات وأسقام لم يَستطِع دفعَها عن نفسه ، فبالأحرى أن يدفع عن الآخر مصائبه…. فلماذا إذن تصوره المؤلف التاودي السقاط بهذا الصورة المخالفة لما عليه حال أشعاره الملحونية ، أهو تصور واقعي ، أو خيالي ؟ أهو من صنف الصدق ، أم من صنف الاختلاق والأحلام ؟ أم يساير الثقافة المتحجرة السائدة ، والمتمكنة من النفوس ؟! أسئلة تحتاج إلى دراسة مستفيضة ، وأجوبة مقنعة ، فالشيخ العلمي كما نعرفه في شعر الملحون ليس هو ما صوره لنا السقاط التاودي في مؤلفه : ( خرق العوائد واستجلاب الفوائد ) اللهم إلا إذا كان هناك شخص آخر يتسمى بالإسم نفسه ، وله كل هذه المهارات في مجال التصوف ، ولا أظن ذلك موجودا ، ولا صحيحا .
( يتبع )