د . مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي – مراكش .
الحلقة الرابعة : قواعد وشروط التصوف وعلاقتها بالمعرفة الصوفية : الرسالة القشيرية أنموذجا

لما بدأت موضوع تتبع مسارات نقد المعرفة الصوفية كان المضنون هو أنها ستنقضي بحلقتين أو ثلاث على أبعد تقدير ، وبكتاب أو كتابين كما يظهر مما شاع عن التصوف وتكرار مضامينه ، وكنت قد حددت ثلاث كتب أساسية هي : ( روح القدس في محاسبة النفس ) للشيخ ابن عربي ، وكتاب : ( إعانة المتوجه المسكين إلى طريق الفتح والتمكين ) للشيخ أحمد زروق ، والكتابان تعرضنا لهما بتفصيل في الحلقتين السابقتين : الثانية والثالثة ، ثم كتاب : ( تنبيه التلميذ المحتاج ) للشيخ ابن عزوز المراكشي .
هكذا كان التصور الأول الذي تغير أثناء الإعداد والكتابة ، حين اكتشفت امتدادات أخرى للمعرفة الصوفية ، تنتشر على كل الزمن الصوفي فقررت الانتباه إلى هذا المعطى من خلال الانكباب على ما يجري فيه الملمح النقدي لتلك المعرفة وإن لم يكن باستطاعتنا ، أو حتى نزعم الإحاطة التامة بالموضوع ، فعلى الأقل الإشارة والوقوف على أهم المصادر والمراجع كما هو الشأن في هذه الحلقة مع كتاب : ( الرسالة القشيرية في علم التصوف ) للشيخ أبي القاسم عبد الكريم القشيري النيسابوري ( 375\465هج ) .
الجِدَّة في معالحة الإمام القشيري للمعرفة الصوفية تكمن في مجموعة من القواعد والشروط التي وضعها للمعرفة المذكورة ، وحدد من خلالها ما يجوز ومالا يجوز في الممارسة الصوفية ، وهذا نوع من الانتباه والنقد القبلي للمعارف الصوفية ، تتخذ من التربية ، ووضع الحدود مسلكا لبيان الصواب والخطأ فيها .
يتفق الإمام القشيري مع جل المتصوفة على أهمية القلب والنفس معا ، وهو اتفاق جاء بشكل الجمع بين القلب والنفس كما هو الحال هنا ، وجاء بمفهوم النفس كما رأينا عند ابن عربي ، وبمفهوم القلب كما مر بنا مع الشيخ أحمد زروق .
الجمع بين النفس والقلب عند الإمام القشيري كان بغرض البناء المتكامل ، لأن مفهوم القاعدة والحد تستدعي مثل هذه النظرة ، وترحب بها ، وبالفعل فالحديث عنهما تجاور في كتاب القشيري ، وفي بابين متتالين ( 12\13) وتحت عنوانين متفاعلين : (الخشوع والتواضع \ ومخالفة النفس) يقول عن دور القلب المحوري في تزكية مفهوم الخشوع ، ولأهمية تلك التزكية استقصى الإمام القشيري كل ما يتعلق بالقلب ابتداء من الصفحة : 144\145…. يقول : ( الخشوع قيام القلب بين يدي الله سبحانه – الخشوع الخوف الدائم اللازم للقلب – الخشوع ذبول يرد على القلب عند اطلاع الرب – الخشوع ذوبان القلب وانخناسه عند سلطان الحقيقة……) .
ولِما مرَّ من تحديدات أثر في الواقع على اعتبار أن التصوف في حقيقته يتكون من قواعد وشروط تؤطر لنا الأفعال والأعمال ، وهو ما أشار إليه الإمام القشيري حين قال عن أحوال الغضب والخلاف : ( من علامات الخشوع للعبد : أنه إذا أُغضِب أو خولف أو رُدَّ ، عليه أن يستقبل ذلك بالقبول ) وقال عن أثره في خشوع العين : ( خشوع القلب قيد العيون عن النظر ) وقال عنه في الصلاة : ( وقيل شرط الخشوع في الصلاة أن لا يعرف من على يمينه ، ومن على شماله…..) .
أما النفس فقد تحدث عنها في باب المخالفة كما قلت ، يروي عن ذي النون قوله : ( مفتاح العبادة الفكر ، وعلامة الإصابة مخالفة النفس والهوى ، ومخالفتهما ترك شهواتهما ) وقال على لسان ابن عطاء : ( النفس مجبولة على سوء الأدب ، والعبد مأمور بملازمة الأدب ، فالنفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة والعبد يردها بجهده عن سوء المطالبة ، فمن أطلق عنانها فهو شريكها معا في فسادها ) وقال راويا عن أبي حفص : ( من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ، ولم يخالفها في جميع الأحوال ، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه كان مغرورا ، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها ، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه…. راجع الصفحات 151 إلى 157) .
التركيب بين القلب والنفس كما رأينا في النصوص المتقدمة يُظهِر تلازما في الخفايا أولا ، ثم تلازما على صعيد الأفعال ثانيا ، فالقلب هو أساس التطهير الداخلي أمام كل الزوابع ومفاسد الواقع ، فمن شروط اتزان العبد أن يكون منقادا لربه في دواخله ، وأن يعمل على تدريب نفسه ما أمكن ، لأنها هي محل الاختبار والتطبيق ، وما نراه من اعوجاج سلوكي عام يرجع كله إلى الارتخاء في عمليتي تطهير القلب والنفس ، وأخذهما بصيغة التلازم المذكور حتى لا يقع انفصال يتولد عنه خلل واضح وفاضح ومتناقض ما بين النيات والأفعال والأقوال ، فالنهر إن جرى صافيا في مصبه ومنتهاه فقد عمل على ذلك من منبعه ومنطلقه .
بعد هذا التحديد للإطار العام للمعرفة الصوفية انطلق الإمام القشيري في وضع قواعد محددة لمختلف أفعال العباد ليزنها في النهاية بميزان تلك القواعد والشروط ، واستقصى في كتابه معظم تلك الأفعال التي تصدر عن الإنسان على طول حياته ، وسأقف على نماذج منها لأبين للقارئ مدى وعمق الجهد الفكري المبذول ، وكذلك ما يجب النظر إليه من الأفعال ، وكيفية عرضها على المعيار القشيري الأخلاقي بصفة عامة :
1 – مفهوم المعرفة بالله : ينطلق الإمام القشيري في تحديد معناها ، وأثرها السلوكي ، ومواقع الزلل فيها من قوله تعالى في سورة الأنعام ، الآية : 91 : ( وما قدروا الله حق قدره ) ثم يعرفها معرفة مباشرة بقوله رواية عن احمد بن عاصم الأنطاكي ، الصفحة : 313 : ( من كان بالله أعرف كان له أخوف……وقال بعضهم : من عرف الله تعالى تبرم بالبقاء ، وضاقت عليه الدنيا بسعتها…..) وفي مكان آخر يقرنها بالعلم ، يقول في الصفحة : 311 : ( المعرفة على لسان العلماء هي العلم ، فكل علم معرفة ، وكل معرفة علم ، وكل عالم بالله تعالى عارف ، وكل عارف عالم ، وعند هؤلاء القوم : المعرفة صفة مَن عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ، ثم صدق الله تعالى في معاملاته ، ثم تَنَقَّى عن أخلاقه الرديئة وآفاته ، ثم طال بالباب وقوفُه ، ودام بالقلب اعتكافُه ، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله ، وصدقَ اللهَ تعالى في جميع أحواله ، وانقطعت عنه هواجس نفسه ، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره ، فإذا صار من الخلق أجنبيا ، ومن آفات النفس بريا ، ومن المساكنات والملاحظات نقيا ،ودامت في السر مع الله تعالى مناجاته ، وحق في كل لحظة إليه رجوعه ، وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره ، يسمى عند ذلك عارفا ، وتسمى حالته معرفة ، وفي الجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه عز وجل………) .
وعندما ينتقل إلى درجة السلوك يشبه المعرفة بالله بالمعاشرة وأثر الصحبة ، يقول رواية عن ذي النون ، الصفحة : 314 : ( معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى ، يحتملك ، ويحلم عنك تخلقا بأخلاق الله عز وجل…..) كما يربطها بأحوال النفس ومتغيراتها ، يقول سماعا عن أبي علي الدقاق ، الصفحة : 312 : ( من أمارات المعرفة بالله تعالى حصولُ الهيبة من الله ، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته ، وسمعته يقول : المعرفة توجب السكينة في القلب ، كما أن العلم يوجب السكون ، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته ) .
وقد سبق أن أدرجنا نصا للجنيد في إحدى الحلقات السابقة يحذر فيه من مخاطر التأويلات الفاسدة لمعنى المعرفة ، وهو ما حذر منه الإمام القشيري كذلك ، يقول في الصفحة : 313 : ( وقال رجل للجنيد : من أهل المعرفة أقوام يقولون : إن ترك الحركات من باب البر والتقوى ، فقال الجنيد : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال ، وهو عندي عظيم ، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا ، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى ، وإلى الله تعالى رجعوا فيها ، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة ) .
هكذا نقل الإمام القشيري رحمه الله معاني المعرفة في أحوال التصور والتجريد ، وفي أحوال الفعل والأعمال ، جامعا بين ثنائية القلب والنفس كما مر بنا الأمر في جميع الحلقات تقريبا ، ولا أستبعد دوام ذلك فيما سيأتي منها .
2 – مفهوم الحرية : يبدو مما يستفاد من مضامين الحرية في الرسالة القشيرية أن الإنسان في دنياه يبقى مهموما بهم واحد وهو مقامه عند ربه بعد أن يؤدي ما عليه من واجبات ، ويسعى جاهدا بالإتيان بكل أعمال القرب من الله تعالى ، ونيل رضاه ، فالإنسان كما قلنا يتفنن وينوع في طرق العبادة رجاء الحصول على الأجر ، ورجاء التعرض للنفحات القدسية من كل جانب ، واستيعابها ، والقيام بها كما يجب ، يقول في الصفحة : 219 عن تعريف الحرية تصورا وتجريدا : ( واعلم أن حقيقة الحرية في كمال العبودية ، فإذا صدقت لله تعالى عبوديته خلصت عن رق الأغيار حريته ، فأما من توهم أن العبد يسلم له أن يخلع وقتا عذار العبودية ، ويحيد بلحظه عن حد الأمر والنهي وهو مميز في التكليف فذلك انسلاخ من الدين ) .
وهذا التعريف فصل فيه العلماء كثيرا ، وأتوا فيه بأقوال عديدة ومختلفة إلا أنها ارتبطت كلها بمقام العبودية بمعناها الواسع ، يقول القشيري في الصفحة : 218 : ( إن الحرية تتحدد في أن لا يكون العبد تحت رِقِّ المخلوقات ، ولا يجري عليه سلطان المكونات ، وعلامة صحته سقوط التمييز عن قلبه بين الأشياء ، فتتساوى عنده أخطار الإعراض ) .
ونتيجة للتتبع المستفيض من قبل علماء التصوف لمعنى التصوف ، وتَحَرِّيهم للدقة في تحديده أوصلوه إلى مقام العزة في قولهم : ( ومقام الحرية عزيز ) واستدلوا عليه بالآية التاسعة من سورة الحشر : ( ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) فهي آية جمعت محاميد مفهوم الحرية التصوري والعملي ، وجعلت الإنسان في رقي مستمر ، وفي عبادة دائمة مهما توالى الزمن ، واختلف العمل .
3 – مفهوم الولاية : منهج المتصوفة في تقرير مفاهيمهم لا يختلف ، فهم في عملية بناء مستمرة للإنسان ، وما أدراك ما الإنسان ، ليس له استقرار ، ولا قرار ثابت ، فيكون العلماء على استعداد دائم ، ويبادرون للتوضيح والتعريف ، وكشف الأخطاء ، والسعي إلى درجة الكمال بمعنى التطهير والارتقاء ، يقول القشيري في الصفحة : 261 : ( وقيل إن إبراهيم بن أدهم قال لرجل : أتحب أن تكون لله تعالى وليا ؟ فقال : نعم ، فقال : لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة ، وفَرِّغ نفسك لله تعالى ، وأقبِل بوجهك عليه ليقبل عليك ويواليك ) .
ويقول في الصفحة : 260 : ( قصد أبو يزيد البسطامي بعض من وصف بالولاية ، فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه ، فخرج الرجل وتنخم في المسجد ، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال : هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة فكيف يكون أمينا على أسرار الحق ) .
هنا تظهر قيمة المعرفة الصوفية الحقة ، فمن شروطها الجمع ما بين الظاهر والباطن ، وما بين التصورات والأفعال ، لأن جزءا كبيرا من العلم الصوفي لا يؤخذ إلا سلوكا وتربية ومجاهدة للنفس بصفة صحيحة ودائمة ، ومن شروطها الأصيلة ابتغاء وجه الله في كل حركة وسكون ، فإذا اختل شرط اختلت تلك المعرفة ، واختل عملها ، ولعل القشيري فطِن للأمر فكرر الرجوع لمفاهيم الولاية وقواعدها في مكان آخر من الكتاب ، ابتداء من الصفحة : 359 .
4 – مفهوم التصوف : من مزايا الرسالة القشيرية أنها خصصت لمفهوم التصوف حيزا خاصا به ، وهو ما يتناسب مع مفهوم القواعد والحدود والشروط ، ويُمَكِّن من المراقبة حتى عندما يظن المرء بأنه قد وصل ، وحصل على كل المنافع ، في هذا الموقف بالذات ، وبذلك الإحساس يتعرض الإنسان للاختبار ، ويصبح هدفا لتلك القواعد ، فالطريق المسلوك ليست له نهاية تدل على الوصول ، فالأحوال لا تسكن ، والمقامات معرضة للزيغ وهوى النفس والشيطان ، ويجب أن تخضع باستمرار لعملية التقييم الدائمة ، وهذا من ملامح التصوف الجميلة ، وفيه نفع كبير على صعيد الفعل والتربية والسلوك ، فما بقي ثابتا على الحسن تعمقت صوفيته وتوسعت ، وما تغير ، أو تبدل فينبغي مراجعته ، ومراجعة الرأي فيه ، أي أن عملية المراقبة والتمحيص تستغرق العمر كله ، مصداقا لقوله تعالى : ( واعبد ربك حتى ياتيك اليقين ) .
معالجة الإمام القشيري لمعنى التصوف صار فيها على النهج المتبع ، فقد وضع له تعريفات فكرية وعامة ، وجعل له علامات مستفادة من المقارنات ، ثم ختم بمسار الخصال المميزة للمعرفة الصوفية في حقيقتها ، يقول القشيري في الصفحة : 280 : ( وقال محمد بن علي القصاب : التصوف أخلاق كريمة ، ظهرت في زمن كريم ، من رجل كريم ، مع قوم كرام ) ويقول : ( وقال معروف الكرخي : التصوف هو الأخذ بالحقائق ، واليأس مما بأيدي الخلائق ) ، وفي الصفحة 282 يقول : ( وقال أحمد الحريري : التصوف مراقبة الأحوال ، ولزوم الأدب……..وقال علي المزين : التصوف الانقياد للحق ) .
ومن علاماته السلوكية كما يقول أبو حمزة البغدادي : ( علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى ، ويَذِلَّ بعد العز ، ويَخفَى بعد الشهرة ، وعلامة الصوفي الكاذب أن بستغني بعد الفقر ، ويعز بعد الذل ، ويشتهر بعد الخفاء….) .
واستنتج العلماء مما ذُكِر بعض خصال التصوف كما جاء على لسان رويم بن أحمد : ( التصوف مبني على ثلاث خصال : التمسك بالفقر والافتقار ، والتحقق بالبذل والإيثار ، وترك التعرض والاختيار ) .
تَرِدُ في المعرفة الصوفية بعضُ الألفاظ والمصطلحات التي تحتاج إلى وقفة متأنية ، ومنها هنا كلمة ( الفقر ) وهو ليس بالمفهوم الدنيوي الشائع ، القائم على متاع الحياة ، وإنما المقصود هو أن يبقى الإنسان عبدا ، وكل أفعاله تدور في مقام العبودية ، فلا يزيغ عن جادة الصواب ، والتعلق بالله ، والخوف منه مهما بلغت درجة صلاحه ، ومهما بلغ حجم الثناء عليه ، فقد يكون ذلك هو مهوى السقوط القاتل إن لم يُنتَبه فيه للنفس وأحاديثِها الباطلة ، وقد قص علينا القرآن الكريم مثالا لذلك في قصة ذي الجنتين كما في وردت في سورة الكهف ، وغيرها من أخبار الطغاة والظلماء .
5 – المريد وشروطه : أختم بذكر المريد وشروطه ، لأن المقام هو مقام تربية وبناء ، والإمام القشيري رحمه الله خصص حيزا ضمن رسالته للحديث عن تلك الشروط باستفاضة تَتَبَّعَت أحوالَ النفس ، ومقاماتِ الأفعال الواجبة عند كل موقف ، وهذه التفاتة جيدة منه تذكرنا بالموضوع وأهميته ، وتنوع كيفياته وأعمالَه ، فهو قد ركز كلامه على جانب السلوك الواسع ، وسأذكر للقارئ منه ثلاث مواقف أساسية ومتكاملة في عملية التفكير والبناء والتربية ، وكلها وردت في الصفحة : 364 ، يقول في الموقف الأول : ( ومن شأن المريد دوام المجاهدة في ترك الشهوات ، فإن مَن وافق شهوتَه َعدِم صفوته ، وأقبح الخصال بالمريد رجوعه إلى شهوة تركها لله تعالى ) ويقول في الموقف الثاني : ( لا بد للمريد من حفظ عهوده مع الله تعالى ، فإن نقض العهد في طريق الإرادة كالردة عن الدين لأهل الظاهر ، ولا ينبغي للمريد أن يعاهد الله تعالى على كل شيء باختياره ما أمكنه ، فإن لوازم الشرع ما يستوفى منها كل وسع ، قال تعالى في صفة قوم ” ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ” ) .
ويقول في الموقف الثالث : ( ومن شأن المريد التباعد عن أبناء الدنيا ، فإن صحبتهم سم مجرب ، لأنهم ينتفعون به ، وهو يُنتقَص بهم ، قال الله تعالى : ” ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه….” ) .
إن هذا التسلسل في عملية البناء ، ووضع القواعد ، وتحقيق الشروط يبين أهمية المعرفة الصوفية في عمقها الأصيل ، فهي منجاة للإنسان بشروطها المعروفة والجامعة ما بين العلم والفكر والسلوك ، ولم أر مثل هذا الشمول والاستقصاء والتتبع في مضامين المعارف الإنسانية الأخرى بسبب أنها في مجملها قد نظرت إلى الإنسان في جزئية منه ، أو في الحياة الأولى فقط ، فالمعرفة الصوفية تستند إلى قواعد الدين ، وتحاول أن تأتي بصور الوجود الإيجابية والجميلة ، وتنمي في النفس محبتها ، والتعلق بها ، والسعي إلى التمسك بنماذجها المضيئة كما تحكي مختلف الروايات والمضامين التي تستغرق العمر مهما بلغ وطال ، وللوصول أيضا إلى الهدف الأسمى وهو أن يكون الإنسان أهلا لمقامي الأمانة والاستخلاف .
( يتبع )