د. مولاي علي الخاميري/ أستاذ جامعي – مراكش
الحلقة الثانية : نقد ابن عربي للمعرفة الصوفية
كتاب ابن عربي : ( روح القدس في محاسبة النفس ) ورد مستقلا بالعنوان المذكور ، وورد في الجرد الذي قام به الدكتور محمد مطرجي ، وأثبته في مقدمة الجزء الأول من كتاب : (الفتوحات المكية ) الصفحة : 95 بتبديل لفظ ( المحاسبة ) بلفظ ( المناصحة ) هكذا : ( روح القدس في مناصحة النفس ) وقد نص ابن عربي في مقدمته بأنه : مما ( بأيدي الناس من كتبنا في طريق الحقائق……) إلى جانب كتب أخرى ، ومنها كتاب ( الفتوحات المكية ) .
هذا الكلام معناه أن ابن عربي قسم مؤلفاته بنفسه حسب أهميتها ومضمونها ، ووضع لكل قسم عنوانا كما رأينا ، ولهذا يعتبر كتاب : ( روح القدس…….) من أهم ما كتب في مجال نقد المعرفة الصوفية لسببين اثنين على الأقل : السبب الأول أنه خلاصة تجربة ذاتية شاقة مر بها المؤلف ، والسبب الثاني يعود إلى محاولة الإحاطة بصور الخلل والاعوجاج عبر تفريع مواقفه في مسارين كبيرين متكاملين : مسار خاص بتتبع مزالق النفس كما رآها المؤلف ، وانتشرت على مناحي كثيرة من حياة المتصوفة ، ومسار آخر ، وكانه نتيجة للأول ، اهتم فيه بالمقارنات الواسعة التي أقامها بين أحواله وأحوال من سبقه من الصحابة والزهاد ، وهو نوع من التسهيل والتوضيح للمرمى الفكري الحميد والمقصود .
كلامنا في هذا المقال سينصب على مباحث المسار الأول ، وسأبدؤه بما جرى بين الشيخ ونفسه ، لأنه يعد بمثابة الانعطاف الأول الذي انطلق منها ابن عربي ، وشيد عليه تصوراته المختلفة ، فالنفس لديه معتبرة ، وأساس الوجود ، وتمثل محورا أصيلا في مجال التقييم ( ولا يصح عندي أبدا موتها عن صفاتها لمعرفتي بحقائقها ومكانها ، ولما رأيت الله قد فتح إلى قلبي باب الحِكمة ، وأجرى فيه بحارها ، وسبح سِرِّي في لجة ثَبَجِها حتى أني والله لأنظر إلى معظم البحر إذا اشتدت عليه الرياح الزَعَازِع ، فَعَلاَ موجه وارتفع دويه ، ثم أنظر إلى تموج بحر المعارف والأسرار في صدري ، فأجد معظم ذلك البحر بما وصفناه من تلاطم الأمواج ، واشتداد الرياح ساكنا لا حراك له عند تموج بحر الحِكم في صدري ، واصطفافه ، لاسيما في مكة المشرفة ، فداخلني من ذلك رعب شديد ، وجزع عظيم ، وخوف مُتلِف ، فعزمت على قطع الميعاد ، وأن لا أقعد للناس ، فأُمِرتُ بالقعود والنصيحة للخلق قسرا ، وحتما واجبا ، فقعدت رفيعَ الكلام ، مُصلِتَ الحُسام ، ثم أخلو بنفسي حيث مسكني ، فأزن المواهب بالحال التي أنا عليها وفيها ، فلا أجد بينهما نسبا يربط ، ولا سببا يضبط ، فخفت والله يا وليي مكر الله بي ، واستدراجه إياي ، فخلوت بنفسي وقد داخلني من ذلك ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، ولا أجد طريقا أدخل منه لتمحيص نفسي ، وقد انْسَدَّت علي المسالكُ بفنون الحقائق الأول والمعارف إلى أن لطف الله بي برؤيا رأيتها ، وجدت بها الظفر على نفسي ، وإقامة الوزن عليها – ص : 26 ) .
إحساس مرير ، قاد ابنَ عربي إلى هذه التجربة القاسية كما قلت التي خاضها مع نفسه ، وفي ذلك مطلبان أساسيان هما :
المطلب الأول أن من الواجب على المتصوف الحق أن يحس بمثل ما أحس به ابن عربي ، وإلا فهو مُرَائي مستفيد ، وصارفٌ لجهده في اتجاه منافع الحياة ، وأعراضٍ الدنيا ، وانتماؤه إلى التصوف يمكن أن يُنظر إليه بشك مبرر .
المطلب الثاني أن مسلك التصوف هو مسلك سلوكي وتربوي ، يرتقي فيه الإنسان بمجابهته لنفسه أولا ، وكلما تصاعد به المصعد إلا وثقلت عليه المسؤولية ، وأحس بالخطر المُحذِق به من كل جانب ، وهو ما سماه المؤلف بأمواج البحر المتلاطمة ، لا فرق في ذلك بين شيخ ومريد ، ومن يظن غير هذا فهو واهم ، ويعطي لنفسه ما ليس بمقدورها ، فالتصوف متجدد في النفس والوجود على مدار اليوم والليلة .
ولم يكتف ابن عربي بالموقف السالف ، وإنما وَسَّع ما أحس به ، وساقه في سياق المحاسبة أو المناصحة المتجددة والمستمرة ، رغبةً منه في الاستقصاء أكثر ، والإدلاء بالبراهين ، ويمكن هنا أن نلاحظ تدرجا في مفهوم المناصحة ، يتناسب مع جوهر النفس ، وحقيقة التصوف ، فعن ضرورة النصح يقول : ( فإن النصح أولى ما تعامل معه رفيقان ، وتسامر به صديقان ، وقلما دامت اليوم صحبة إلا على مداهنة…….) .
ومن باب النصح الأوكد تذكير النفس بمآل الإنسان الحتمي يقول راويا عن أويس القرني : ( إن الموت وذكرَه لم يتركا لمومن فرحا ، وإن علم المومن بحقوق الله تعالى لم يترك في ماله فضة ولا ذهبا ، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقا…….وكل إنسان يقبل النصح من غيره ، لا من نفسه إلا من وفقه الله تعالى ) .
ولم ينس ابن عربي نفسه في هذا التدرج عندما أحس بأحاسيس الطريق ، وحرقة الانتماء ، ومكابدة متطلبات التصوف ، فقد انتهى إلى قوله : ( ومثلي مَن يقال له هذا ، لأن النفس عمياء عن عيوبها ، بصيرة بعيوب غيرها ، فأدى نصحك لها في أمر واحد إلى ارتكاب محظورات كثيرة من الكذب والنفاق….. ولقد قلت في ذلك شعرا :
لما لَزِمتُ البحثَ والتحقيقا
لم يتركا لي في الأنام صديقا .
ثم لما وصل إلى ذكر المقام كان فيه واضحا ، وصاحب موقف قوي بسبب أنه تدرج كما قلت في رسم ملامح التصوف والمتصوف الحقيقيين ، وكل تجربة لا توصل صاحبها إلى المقام الذي تتصفى وتسمو فيه النفس ، وتتخلص من أدرانها فصاحبه لا يُعتَد به في أقواله وادعاءاته ، يقول : ( فأعربت له – وفقه الله – أن ذلك مقام من أحبك لنفسه ، وأما من أحبك لك فلا سبيل ، ولما كان حب الله إيانا لنا ، لا لنفسه نبهنا على معايبنا ، وأظهر لنا نقائصنا ، ودلنا على مكارم الأخلاق ، ومحامد الأفعال ، وأوضح لنا مناهجها ، ورفع لنا معارجها ، ولما أحببناه لأنفسنا ، ولم نتمكن في الحقيقة أن نحبه له – تعالى عن ذلك – رضينا بما يصدر منه مما لا يوافق أغراضنا ، وتمجه أنفسنا ، وتكرهه طباعنا ، والسعيد هو الذي رضي بذلك منه تعالى ، ومَن سواه يضجر ويسخط فنسأل الله تعالى العفو والعافية لنا وللمسلمين – ص : 15\16\17 ) .
لله در ابن عربي ، فعلى ما قال كلنا مذنبون ، وقد جئنا إلى الدنيا بخطايانا المختلفة والمتتالية ، ولعل التصوف يعد من طرق النجاة إذا أقامه صاحبه على محاسبة النفس ، والحد من غلوائها ، وسعى باستمرار إلى تربيتها ، وتحسين وجودها ، فالاكتفاء بالانتماء إلى التصوف عبر صوره النمطية ، أو الاستعراضية لا يفيد صاحبه في شيء ، ما لم يتخذ منه طريقا للنصح ، وإصلاح النفس على صفة الدوام والحياة ، ولربما كان ادعاء التصوف يزيد من كذب المنتمين ونفاقهم ، ويوقعهم في خضم التناقضات الصارخة كما لوحظ ذلك على امتداد زمن التصوف كله .
ولتأكيد سير ابن عربي مع النفس ، وتنبيهه على فسادها ، وتأكيده على اعوجاجها الوجودي قام بتطعيم موقفه الإصلاحي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه سالم مولى أبي حذيفة : ( لَيُجَاءَنَّ بأقوام يوم القيامة معهم من الحسنات مثل جبل تهامة ، حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالَهم هَباء ثم قذفهم في النار ) فقال سالم : يا رسول الله بأبي أنت وأمي حُدَّ لنا هؤلاء القوم حتى نعرفهم فوالذي بعثك بالحق إني أتخوف أن أكون منهم ، قال : ( يا سالم أما أنهم كانوا يصومون ويصلون ) وفي حديث آخر ( وكانوا يأخذون وَهنا من الليل ولكنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام ) وفي رواية من طريق آخر ( شيء من الدنيا وثبوا عليه فأدحض الله عز وجل أعمالهم – ص : 19 ) .
هذا الحديث فيه تفصيل لمآل العباد وأهل التصوف في المعيار الأساس ، وهو ميزان الله ، وفيه تصوير بليغ لمآل الأعمال ، فلا يكفي الوقوف على ظاهرها فقط لأنه معرض للتزوير والتلفيق ، بل يجب من كل فرد يزعم العبادة والزهد وغيرهما أن يلاحظ ما بداخل نفسه أولا ، ثم يحدد ما هي مقاصده من التصوف على سبيل المثال .
الحديث بليغ وكاف في سياقه ، إذ يصور لنا بتصوير دقيق أحوال الإنسان من جهة النيات والأعمال ، ويوصيك بأن لا تغتر بالعمامات ، والجلاليب البيضاء ، وروائح العطر الفواح ، وتمتمات الشفاه ، والتسابيح المعلقة على الأعناق ، أو الملوية على راحات اليد…….. فكل ذلك ليس من ميزان الله الحق العدل في شيء ، فالإنسان من مهالكه أنه ذو حِيَل خبيثة حتى مع خالقه سبحانه وتعالى ، رحم الله سيد أهل التصوف أبا القاسم الجنيد حين رأى في زمنه فساد المتصوفة فأنشد :
أهلُ التصوف قد مضوا
صار التصوف مِِخرقه
صار التصوف رَكْوَةً
سَجَّادةً ومِدلقَه
صار التصوف صيحةً
وتَوَاجُدا ومَطبقَه
كَذَبَتْكَ نفسُك ليس ذي
سَنَنُ الطريق المُلحَقه ( ص : 20 ) .
والأمثلة التي تحدث عنها ابن عربي في كتابه : ( روح القدس في محاسبة النفس ) استقاها مما آلت إليه أحوال العباد في عصره ، مقارنة بأحوال السلف ، وصريح الدين المراد ، وانطلق في عملية تتبع واستقصاء من نفسه ، ثم توسع كثيرا في ذم أهل زمانه ، وقد سبق لي أن سقت في الحلقة الأولى السابقة قولَه : ( فالزمان يا وليي اليوم شديد…….) فليُرَاجَع في مكانه المحدد ، وسأضيف هنا نصا متمما يخص أهل السماع والوجد ، وما أدراك ما السماع والوجد في اعتقاد المتصوفة ، فقد يتكاسلون ، أو ينسون الصلاة وغيرها من أعمدة الدين ، ولكنهم لا يفرطون في السماع والوجد ، فهم فيه أهل نشاط وأفعال وحضرة لا يعلم بمقدار غَلَيان الدم فيها إلا الله تعالى ، وهذا الخلل البين كما عالجه ابن عربي هو موضوع مقالاتنا القادمة حين نتعرض فيها لكتاب ابن عزوز المراكشي : ( تنبيه التلميذ المحتاج ) فقد فصل فيه القول بما يتلاءم مع تفاقم المعرفة الصوفية ما بين عصر ابن عربي ، وابن عزوز ، يقول ابن عربي : ( وأما أهل السماع والوجد في هذه البلاد فقد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، لا تسمع إلا من يقول لك : رأيت الحق ، وقال ، وفعل ، وصنع ، ثم تطالبه بحقيقة يمنحها ، أو بسراء استفاده في شطحه فلا تجد إلا لذة نفسانية ، وشهوة شيطانية ، يصرخ على لسانه الشيطان فيصعق ما دام المغرور الآخر بشعره ينهق ، فلا أشبههم إلا براعي غنم ينعق بغنمه فتقبل وتدبر لنعيقه ولا تدري فيماذا ، ولا لماذا ، فواجب على كل محقق في هذا الزمان ممن ينظر ويقتدي به المريد الضعيف أن لا يقول بالسماع أصلا ، ويقطعه قولا وفصلا ، وقد أوضحنا مقامه لأهل هذه البلاد ، وما يتطرق إليه الفساد…..ص : 23 ) .
ولتكميل دائرة الرأي كما رآه ودبجه ابن عربي حول حقيقة التصوف ضَمَّنَ كتابه مجموعة من صفات الصفوة من أهل الله ، وفي هذا دليل على اتزان المؤلف في مواقفه ، وعلى أنه عالم بالطريق ، وعارف بالأفعال ، وممارس لها ، وهو أهل لأن يُشار إليه في كل ما يتعلق بحقيقة التصوف ، وكلامه عنها ليس من باب النقص والرفض ، وإنما من باب النقد الضروري لكل تجربة صوفية حتى لا تتيه ، أو تُزَوَّر بأفعال الحمقى والمغفلين والمدعين ، يقول على لسان من سماه بأبي الفيض : ( إن لله لصفوة من خلقه ، وإن لله لخيرة ، قيل له : يا أبا الفيض : ما علامتهم؟ قال : إذا خلع العبد الراحة ، وأعطى المجهود في الطاعة ، وأحب سقوط المنزلة ، ثم قال :
منع القرآن بوعده ووعيده
مُقَل العيون بليلها أن يهجعوا
فهموا عن الملك الكريم كلامه
فَهْماً تَذِل له الرقاب وتخضع .
فقال له بعض من كان في مجلسه : مَن هؤلاء القوم يا أبا الفيض رحمك الله ؟ قال : ويحك هؤلاء قوم جعلوا الركب لجباههم وسادا ، والتراب لجنوبهم مهادا ، هؤلاء قوم خالط القرآن لحومَهم ودماءهم فعزلهم عن الأزواج ، وحركهم بالإدلاج ، فوضعوه على أفئدتهم فانسرحت ، وضموه إلى صدورهم فانشرحت ، وتصدعت هممهم به فكدحت ، فجعلوه لظلمتهم سراجا ، ولسبيلهم منهاجا ، ولحجتهم إيلاجا ، يفرح الناس وهم يحزنون ، وينام الناس ويسهرون ، ويفطر الناس ويصومون ، ويأمن الناس ويخافون ، فهم خائفون حذرون وجلون ، مشفقون مُشمِّرون ، يبادرون من الفوت ، ويستعدون للموت……ص : 21\22 ) .
أين نحن من مثل هذه الصفات في عصرنا ؟ وأين حظ القرآن الكريم في التقديم والتلاوة والذكر والتطبيق ، والتحلي بأوصافه ، والدعوة له ، والتمكين لأحكامه وشريعته بين الناس ، وفي داخل الزوايا ، وعلاقة الشيوخ بالمريدين والأتباع ؟ وأين حظ الناس والمجتمع في عقيدة المتصوفة الجدد ، ومعاملاتهم من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهر بالحق ، والانكباب على الإصلاح ، ونشدان التطور وتحسين ظروف الناس الحياتية قبل الاعتقادية……؟! .
لا أظن أن شيئا يسيرا من هذا حاصل اليوم ، ولم أسمع ، أو أرى أفعالا تدل عليه في عقائد وأعمال متصوفة وقتنا ، فابن عربي قال ما قال ، وحكم بما حكم ، واستنتج ما استنجه ، ولعله ظن خيرا بأهل التصوف ، وراودته أفكار وأحلام إيجابية في المستقبل الموعود…..ولكن لنتخيل – ما دام وضع التصوف قد انحط ، وازدرى أكثر مع توالي حلقات الزمن المتتابعة – لو بُعِثَت روحه اليوم ، ماذا عساه سيقول ويفعل ؟! .
خير الكلام والختام لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، إليه يرجع الخلق والتدبير ، وبيديه يجري الفعل والتفويض ، والحياة لن تستمر لأحد ، والندم لن يجدي كل مدع ومُزَوِّرٍ على الله في دينه ، ومع عباده .
( يتبع )