د . مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي
لو وقفتُ في وصفي للأستاذ أحمد متفكر عند الوصفين المذكورين في العنوان لكنت قد أنصفته بلحظة واحدة من لحظات عطائه المتتالية إلى الآن ، ولكن الرجل له نفَس وصبر على مواصلة الطريق ، وإصرار على قطف الثمار بجد وتنوع ضمن النسق الفكري الخاص الذي رسمه لنفسه منذ البدايات الأولى .
أبرز نقطة في المسار المذكور هو غيرته الفكرية على مدينة مراكش وعلمائها بالرغم من الجحود المتواصل والمتعاظم في حقه إلى اليوم ، وبالرغم من الطفرة العلمية الكبيرة التي يواصل بها خطوات إنجازاته المتلاحقة كما ونوعا .
مفهوم مراكش عنده كان شاملا متنوعا بتنوع مدى التاريخ وجغرافية التأثير ، ولا زالت الاكتشافات والإنجازات في تصاعد ، وتطرق في ولهه بنسقه المحبب إلى عناوين عديدة ، ويمكن من خلال تتبع لائحة الكتب والإصدارات التي بلغت أزيد من ستين ( 60 ) كتابا الإدلاء بالملاحظات والمميزات العامة التالية:
1 – مراكش بمفهوم التاريخ والجغرافية : والمفهوم المطروح هنا ليس بذلك التحديد العلمي الضيق لكلمتي التاريخ والجغرافية ، وإنما هو يعني تلك الأحاديث والمضامين التي تنطلق وتعود في آن واحد إلى مراكش ، فالعاشق المتيم الولهان لا يقدر على الصد ، ولا يقدر على الانفكاك من الأسر الآسر للقلب واللب والعقل ، والمفهوم السابق يجسده الجهد المبذول في إخراج المؤلفات الثلاث الآتية :
– السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية .
– تعطير الأنفاس في التعريف بالشيخ أبي العباس .
– جمع ونشر ندوة تكريم الأستاذ محمد إقبال .
العناوين السالفة تجمع ما بين كل الأزمنة والأمكنة والمعارف سواء بشكل فردي ، أو جماعي ، كما أنها تبرز المساحات المعرفية المترامية الأطراف والمنفتحة على العمل الفكري والديني والأدبي واللغوي…….
2 – مراكش بمفهوم الوهج الديني : من مفاهيم مراكش الأساسية ذلك الوهج الديني المصاحب لوجودها منذ البدايات الأولى ، وقد كان الأستاذ متفكر موفقا فيه حين استطاع أن ينجز ما استطاع إنجازه في هذا الباب ، وعدده يفوق عشرة عناوين وبالمَلمس الموسوم بالامتداد الزمني ، وتنوع المحتوى كما سنرى من العناوين التالية :
– النعم الجلائل في التعريف بمولانا محمد سليمان الجزولي لمحمد بوستة .
– مساجد مراكش بطبعاتها المزيدة والمنقحة
– من خطباء الجمعة بمراكش عبر التاريخ .
– إظهار الكمال في تتميم مناقب سبعة رجال للتعارجي .
– من أعلام الفتوى بمراكش عبر العصور .
– التوشيح لبردة المديح لحمد بن المعطي السرغيني .
– عقد الجواهر واللآلي على نصيحة أبي العباس سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي…..
الوصف الذي تحكم في كل المؤلفات المذكورة يتنوع ما بين الجمع والدراسة والتحقيق ، وينطلق من الخطب والفتوى إلى سلك التعريف والتوشيح والعقد واللآلئ والنصائح لينتهي بمعاني التتمات والاستدراكات ، وتستوجب مثل هذه المصطلحات المستعملة دراسات وتدقيقات علمية مستقلة ، تبني المفهوم ، وتميز المحتوى ، وتدقق في التتبع حتى تصبح مؤهلة للتصنيف والإضافة إلى الرصيد المعرفي العام والخاص .
3 – مراكش بمفهوم الأعلام والأثر : عنوان جديد ، مستل من العطاء الفكري للأستاذ متفكر ، يسترعي انتباه القارئ والمتتبع ، ويرشده إلى العلامات العملية الكبرى للمشروع الفكري المتسلسل عبر حلقات متصلة بالنشاط العلمي لمدينة مراكش ، ومن أهم عناوينه ما يلي :
– مجموع رسائل ونظم محمد بن عبد السلام بوستة .
– نظم القوافي في الباشا الكلاوي .
– أبو الفضل القاضي عياض .
– قضاة مراكش عبر العصور .
– جواهر الماس في تراجم من اسمه العباس للتعارجي .
– مقالات ومحاضرات العلامة عبد السلام المسفيوي جبران .
– مجموعة اليواقيت العصرية للموقت .
ويلاخظ على هذه المجموعة من العناوين أنها بدأت تزداد كما وحجما ، وتدور مع تاريخ مراكش من خلال الأعلام المؤثرة ، ومن خلال الأخبار والمحتويات ، كما أنها لم تبتعد عن المسارات التاريخية والزمنية القريبة والمتباعدة .
4 – مراكش والمحيط : ونقصد بهذا العنوان مسائل ثلاث هي : الجوار والوطن والانتماء ، فعن طريق الفرز ما بين المحتويات الدالة سنقف على أن البحث في شأنها قد وقع من جهات التكامل والتفاعل ، واستمر عبر تفاصيل إبداعية متنوعة ، ترسم خرائط واضحة لمختلف المناطق الثقافية المغربية ، وبتأثيرات داخلية وخارجية ، تسعى إلى إظهار ملامح الشخصية المراكشية ، وآليات تأثيرها ، واستفادتها ، ومساهماتها الفكرية المستمرة ، ولعل الدليل الأقوى على ذلك هو مدلولات هذه العناوين :
– من أشعار أحمد شوقـي الـدكـالـي الفـحـلــي .
– ديوان عبد الرحمان الدكالي الصديقي .
– رباعيات الخيام لعبد الحق فاضل .
– علماء جامعة ابن يوسف في القرن العشرين .
– فاس في الشعر العربي .
– حديقة الأزهار في ذكر معتمدي من الأخيار لمحمد بن المعطي السرغيني .
– المجد الطارف والتالد على أسئلة الناصري سيدي أحمد بن خالد لمحمد الأمين الصحراوي.
– علماء قلعة السراغنة وإشعاعهم الفكري
– دخيل أم أثيل لعبد الحق فاضل
– الإعلام بتراجم علماء دكالة الأعلام
– الإلمام بتراجم علماء وأدباء سجلماسة الأعلام
– قضاة فاس…….
هذا الخليط من المعرفة يناسب توجهات الأستاذ متفكر المتفرقة ما بين الإلمام بحياة الأعلام ، والتحقق من وجودهم وإشعاعاتهم الفكرية ، وما بين دراسة المضامين المعرفية بصيغة تقترب من البحث عن الندرة ، وعوامل التميز المعرفي على مستوى الشعر واللغة والتصوف .
5 – مراكش بمفهوم الحضارة والتمدد الثقافي : ضرب الأستاذ أحمد متفكر بسهم وافر في هذا الجانب من الفكر والعلم المتصل بمدينة مراكش عبر تاريخها وأجيالها المتعاقبة إلى يومنا ، وقد تعمدتُ أن أُغَلِّبَ المادة الشعرية على الأمثلة المنتقاة ، لما للشعر من دلالات عامة وقوية على النفوس ، ولما يستلزم من ثقافة جادة ورصينة ، بالإضافة إلى رغبتي الجامحة في إبداء مشاركة مدينة مراكش ، والمغرب عموما في ثقافة الشعر التي تحسب دوما على المشرق ، ولعل كل هذه الدوافع ، أو بعضا منها مما خامرني أثناء التبويب والتفصيل رَاوَدَ كذلك فكرَ الأستاذ متفكر ، فاندفع وهو المتحمس ، الدارس ، الصبور ، والمواظب للسفر الفكري الطويل ، المنقب عن المادة الشعرية في مظانها الأصيلة كثرة وحضورا ودورانا على الألسنة كما تشي بذلك دلالات العناوين التالية :
– مراكش في الشعر العربــي .
– من أشعار أحمد بوستة المراكشي .
– ديوان عبد الحق فــاضــل .
– من أشـعـار أبـي بكـر الجـرمـونـي .
– ديـوان مـولاي إبـراهـيـم الحــاري .
– ديـوان مــولاي الـطـيـب المـريــنـي .
– شاعر الحمراء في ألسنة الشعراء .
– معجم شعراء مراكش في القرن العشرين .
– من شعر محمد بن حسن المراكشي الجبرائيلي.
– ديوان الأستاذ الهاشمي الهواري .
– الطب والأطباء بمراكش عبر العصور .
– مقالات ومحاضرات الشيخ الرحالي الفاروق .
مسألة البرور في ميدان العلم قليلة ، وتُطرح في وقتنا الحاضر بتجليات سلبية كثيرة ، يعاني منها مجموعة من الأسماء النشطة في الحقل الثقافي داخل مراكش ، وعلى رأسهم الأستاذ أحمد متفكر نفسه ، وهي الجريرة المتوارثة التي تعامل معها الأستاذ المذكور بعدم الاهتمام ، والترفع عن مستنقعاتها الآسنة بصفة دائمة ، وسنجده باستمرار معاكسا لتلك اللوثة المضرة ، فما كتب ، وجمع ، ودرس وحقق يدخل في باب البرور بمدينته مراكش ، وبوطنه المغرب ، وبأساتذته وأصدقائه ، وبعموم المثقفين ، ومَن أثر فيه ، وتأثر به من قريب أو بعيد .
هذا الموقف النبيل من الأستاذ متفكر يستحق التنويه والإعجاب والتقدير ، ويزود النشء بسبيل سالك وناجح ، يعلمه ويربيه على فضيلة التغاضي والعمل والإنجاز ، ويساعده على نيل درجات العلم المشرفة له بين أقرانه ، وفي جميع مراحل حياته ، وهي سنة حميدة يجب أن يُحتفل بها ، وتُعلم إلى الأجيال في مختلف التخصصات العلمية ، وعلى مسالك كل دروب الحياة .
6 – منهج الاشتغال ودلالاته : اشتغل الأستاذ أحمد متفكر على مجالات ثقافية واسعة ومتحركة ، يغلب عليها التطور والاكتشاف المستمر على صعيد المعارف المختلفة ، فليس من السهل أن تتنقل ما بين الأفكار والأعلام والإبداع بسهولة ، أو بحصيلة نهائية ، وهو ما سيضني الباحث ، ويجعله عرضة لنقد بعض المغرضين ، المغرمين بمواقف السلب والنقص ، والمروجين بعدم الإلمام بالحقائق المدروسة ، ولم ينتبه مثلُ هؤلاء حُرَّاس المعبد الذين لا يتحركون ، ولا يفعلون ، ولا ينجزون إلى تلك الجهود المستقصية عن الأخبار ، أو المادة العلمية ، لاسيما وأن الأستاذ متفكر قد انطلق في أغلب بحوثه من لا شيء ، وثابر بصبر وجلَد ، وارتحل كثيرا ، وطلب ، وكرر ، واستعطف…….. لعله يظفر بما يريد من باب الحرص ، والغيرة على تراث مراكش والمغرب ، والتفاني في حفظ إرث الأقران والأجداد ، ومَن يجلس مع الأستاذ متفكر ، ويتذاكر معه في هذا الموضوع سيلاحظ أن الرجل لا زال يحمل غصصا عديدة في دواخله ، تسبب له القلق الفكري مخافة ضياع ما خلفه بعض أهل الفكر والثقافة بعدما غيبهم الموت ، وتنصل الأبناء من تتمة مشوار الآباء ، بل منهم من أغلق الباب نهائيا ، وترك المسودات والمؤلفات المنجزة عرضة للتلف والضياع ، وسأنقل للقارئ شهادة حية وناطقة بتلك المعاناة غير المرئية ، يقول محمد إكرام السباعي في الصفحة : 23 من كتيبه : ( الأحمدون الثلاثة ) وضمن حديثه عن العَلَم الفذ أحمد الشرقاوي إقبال : ( ومما يُؤسف له أن هذا الملف الرائع – ملف لغوي عن كلمتي الربع والتوقيع – ظل حبيس الرفوف في خزانته – المقصود خزانة الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال – مثل ملف آخر أكثر أهمية ، تحدث فيه عن عالم الجن ، فاق به ما كتبه الشبلي والسيوطي ، وما لدى علماء الشرق والغرب……. وقد اجتهد الأستاذ أحمد متفكر ، وكان رفيقه وجليسه ، ومساعده في مرضه الأخير أن ينشر تراثه بعد وفاته كما فعل مع أعلام مراكش ، ولكن أبناء الفقيد أبدوا امتناعا ، وظلوا محتفظين بما ألفه والدهم ، وهذا لا شك غفلة منهم ، وحرمان والدهم من أجر العلم النافع الذي يظل حاضرا بعد موت صاحبه ) .
معاناة الأستاذ أحمد متفكر ستستمر معه ، وتشعره بعدم الاستقرار الفكري أثناء وضع المصطلحات التي تميز فعله ، وتتصدر كل الأعمال التي أنجزها ، فتارة هو جامع ، وتارة هو دارس ، وثالثة هو محقق ، وعندما تتعدد الطبعات يصبح منقحا ومزيدا ، ومستدركا كما فعل مع كتاب : ( إتمام الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام – في جزأين ) ومع الكتاب : المزيد والمنقح : ( التذكير والإخبار بتراجم علماء وصلحاء وأدباء دكالة الأخيار ) .
ولا شك أن مثل هذه التقلبات المصطلحية الحاضرة باستمرار في المنشورات كانت تجهده ، وتتطلب منه انتباها خاصا ، ومع ذلك واصل المسير ، ولازال مستعدا للبذل والعطاء ، فقد كان واعيا منذ البداية بطبيعة الاهتمام الفكري الذي اختاره لنفسه ، وجعله في صحبة دائمة مع الناس ، ومع أهل المعرفة والثقافة ، ومع الكتاب المتعدد والمتنوع ، صحبة وفرت له ممارسات فكرية سليمة ، ومكنته من خبرة واسعة وفاحصة ، لا يجود الزمان بها إلا نادرا وللقلة القليلة ، ممن اصطفاهم الله من عنده للقيام بمثل ما قام به الأستاذ أحمد متفكر ، أو بما يشبهه من بناة صرح مسار العلم الإنساني على طول تاريخ البشرية .