الصفحة الرئيسيةثقافة \ أبحاث

استجداد شعر النظم من خلال ” الاصطفا في مختصر كتاب الشفا .. للأديب إسماعيل زويرق

د . مولاي علي الخاميري
أستاذ جامعي – مراكش


1 – استفتاح :

النظم لعب دورا مهما في مهنة التدريس ، واكتساب المعارف ، وأفاد الطالب ، والعاشق للعلم في مختلف الفنون ، واستطاع أن يقوم بمهام الجمع والاختصار بلغة فيها شيء من شكل الإبداع الشعري ، مقترن بالرغبة في تسهيل المعارف وتذليلها وتركيزها في النفوس والأذهان بشكل يمكن استحضاره ، والإدلاء به ، ومع توالي الزمن حببت طريقة النظم للناس ، وتطورت حتى أضحى لدينا تراث ضخم ، يدخل كله في باب النظم ، وقد جمعت تلك المنظومات عبر العصور في مؤلفات عديدة ، واشتهرت بكتب ، أو مجموع المتون التعليمية ، وتفاوتت أحجامها تبعا لعدد المنظومات ، وعدد أبياتها ما بين الكبرى والمتوسطة والصغرى .

والنظم لغة يطلق على معان لغوية تجمع ما بين معنى ( التأليف والجمع والضم ، والاستقامة ، والانتظام والاتساق ” 1 ” ) .

والنظم في الاصطلاح : ( ضد النثر ، وقيل هو كلام موزون مقفى دل على معنى معين ” 2 ” ) وقد وضعوا لكل كلمة محترزا خاصا بها فليراجع في مكانه المشار إليه في الهامش .

والعرب أقاموا فرقا واضحا بين مفهوم الشعر ومفهوم النظم للمحافظة على درجة كل واحد منهما ، وللتفريق بين الوظيفة الإبداعية والجمالية الخاصة بالشعر ، وبين الوظيفة التعليمية ، الموكولة للنظم ، حكى التبريزي أنه كان يسأل المعري عن الشعر ، يقرؤه عليه فيقول له : ( هذا نظم جيد ، فإذا مر به بيت جيد قال : يا أبا زكرياء هذا هو الشعر ” 3 ” ) .

وقد قيل : ( من أراد أن يميز بين ما يمر بسمعه من قول : أنظم هو أم شعر ؟ فلينصت إلى القائل ، فإن شعر أن في معانيه صورا جمالية ، وتشبيهات راقية ، وانقادت نفسه له طربا فذلك هو الشعر ، وإن مر به القول فلم يحدث في نفسه ذلك الأثر فذلك هو النظم ” 4 ” ) .

فالنظم التعليمي بهذه الصورة المتجلية في التراث العربي قام بدور مهم ، وقرب العلوم إلى عموم الناس ، ويسر فهمها ، وحفظها باختصار ( مسائل كل علم من العلوم الإنسانية في ورقات صغيرة الحجم ، عظيمة النفع ، حسب مستويات المتلقي ومداركه ، تحفظ عن ظهر قلب ، ووضعوا عليها شروحا وحواش تفك مقفلها ، وتحل مَعانيها لمُعانيها ، ووزعوا تلكم المختصرات على مراحل ، فمنها ما يحفظ في أول الطلب ، ومنها ما هو خاص بالطبقة المتوسطة ، ومنها ما هو خاص بطبقة المنتهين……” 5 ” ) .

2 – الأسس الفكرية الأولية المتحكمة في كتاب ” منظومة الاصطفا في مختصر كتاب الشفا….” :

القصد من وراء هذا العنوان هو الكشف عن سياق كتاب الشاعر إسماعيل ازويرق ضمن سياق تراث النظم العربي التعليمي بصفة عامة ، لأنني أعتقد ومن خلال قراءتي للكتاب المذكور أن الكاتب لم يهتد إلى ما اهتدى إليه صدفة ، وإنما كانت هناك مجموعة من العوامل النفسية والفكرية دفعت به إلى إنجاز الكتاب ، ويمكن أن نميز هنا بين مجموعة من الأدلة الأولية كما قلت تبين هذا المدى الفكري في الزمن ، والمتحكم في عملية التأليف وعلى مختلف مراحلها ومضامينها ، وسأختصرها للقارئ في الدلالات التالية :

2 – ا – دلالة الإهداء : نجد الكاتب يهدي كتابه بهذه الفقرة الجامعة والمانعة ، يقول : ( إلى الفقيه العلامة القاضي أحمد سكيرج الخزرجي الأنصاري صاحب كتاب : ” مورد الصفا في محاذاة الشفا ” رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ” 6 ” ) .

2 – ب – دلالات كتابي الشفا ومنظومات الاصطفا : سنجد الكلام يطول في هذا المنحى ، ويتمدد ليشمل القاضي عياض ، وبلده المغرب ، ومجموعة من علمائه الأفذاذ ، يقول ازويرق عن دلالة شخصية القاضي عياض الملهمة : ( فما تحدث محدث عن علماء الحديث ، ولا عن الأولياء السبعة إلا وذكر القاضي عياض ، وجذبه الحديث عن شفاه…..” 7 ” ) .

ويقول عن فخر أهل المغرب بكتاب ” الشفا..” : ( يكفي أهل المغرب مما ألف في سيرة المصطفى هذا الكتاب الذي ألفه القاضي على غير مثال ، فلم يك لغيره صدى ، ولا لسواه احتذاء حتى عرف به المغرب ، إذ وفى واستوفى ، وجاء بما على غيره واستعصى ، انتقى وأبدع وبسط وأوجز ، وحلل وأعجز ، ولا يتأتى ما أتى به إلا لذي عقل ثاقب ، ولا ما أشار إليه إلا لذي علم راسخ ، جمع فأوعى ، فكان مصدرا في المعرفة لكل ذي باع ، ومرجعا في موضوعه لكل ذي يراع ” 8 ” ) .

ويقول عن حضور كتاب ” الشفا….” وأهتمام العلماء به نظما عبر العصور : (….وما يهمني مما تعج به المكتبات من هذه المنظومات هي ما يتعلق بكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، فقد نظمه العلامة محمد بن عبد الرحمان الدلائي المتوفى سنة 1141 هج ، والعلامة عبد الله بن عبد السلام بن علال الفاسي ، والفقيه أبو العباس أحمد بن جعفر الكتاني ولكنه لم يتمه ، والعلامة أبو العباس أحمد بن العياش سكيرج الفاسي ، والصديق الشاعر الدكتور عبد الرحمان الفكيكي ، سماه ألفية الشفا في التعريف بحقوق المصطفى…..” 9 ” ) .

إن اتساع دلالات حضور كتاب الشفا في المشهد الثقافي المغربي وبهذه الوزن والقوة يؤشر على النجاح في التأليف الأول ، والتأثير على ما جاء بعده ، مما شكل مجرى جديدا في حركية التأليف والنظم ، وبأبعاد ذاتية وفكرية مختلفة ومتعددة ، ومن بين بركتها المباشرة كتاب : منظومة الاصطفا…..

2 – ج – دلالات تكامل وتشابه أحوال القاضي وإسماعيل زويرق:

مصادفات عجيبة سيلاحظها القارئ ، جمعت بين القاضي عياض وإسماعيل زويرق من جهة ، وبين العلامة أحمد سكيرج صاحب الإهداء الأول والأساسي لكتاب : ” منظومة الاصطفا…..” تعد من مميزات ، وممهدات اللقاء بين الأعلام المذكورة ، وأكيد أنها ستجمع العمر والنفس والفكر والزمان والمكان كله ، يقول المؤلف مخاطبا القاضي عياض ، مبديا إعجابه المطلق بكتابه الشفا : ( سيدي القاضي عياض أنا معجب بكتابك الشفا أيما إعجاب ، وهو ما دفعني إلى أن أميل كل الميل إلى نظمه في منظومة مطولة ، فأنا ابن البلد الذي احتواك لتكون سابع السبعة ، وأنا جارك ، فمرتع طفولتي قريب قريب من ضريحك ، فأنا أولى وأجدر بعقده….” 10 ” ) .

ومما استنتجه المؤلف وهو يتتبع ويتأمل حياة العلامة أحمد سكيرج قوله في الخلاصة الجامعة بينهما : ( توفي سيدي أحمد سكيرج يوم ولدت ، أصيب بداء السكري مثلي كما أصبت ، اهتم بالمديح النبوي كما اهتممت ، دفن بضريح القاضي عياض الذي يوج بجوار حينا عرصة المسفيوي…..” 11 ” ) .

يالها من صدف جامعة ، لا تتكرر إلا في مشاهد قليلة ، وتنبثق عندما يتسامى الظاهر والباطن في شخصيات عديدة ، وبطريقة تصل بالإنسان إلى حياة متفردة وخاصة ، ولها رجوع إلى الوراء السحيق ، وتطلع لمستقبل جديد ، خادم لأفكار الحق والحب والفكر ، وساع إلى بعث مجد الماضي من أجل غد منبعث ، يتجاوز عتبة الحياة المرئية ، وهو نوع من معاني التصوف بمفاهيمه السامية التي تحض على العلم ، والتكامل المعرفي ، ولا يضرها ، أو ينقص من قيمتها أنني أسميتها بالأسس الأولية ، فهذا بعد منهجي صرف ، يشبه أعمدة البناء الأولية ، ودورها في الحصر والبناء والتجميل ، والتشجيع على العمل والإنجاز .

3 – محاور الاستجداد في مضامين كتاب منظومة الاصطفا…….

كتاب منظومة الاصطفا لم يكن كتابا واقفا عند حدود المعلومة الواردة في كتاب الشفا ، ولا كان همه هو استبدال النثر بالنظم ، وإنما قام على كشف سياقات جديدة تجمع ما بين الكتاب الأول والثاني ، وما أحدثاه من جريان نفسي ، وتناسق فكري جمع بين نخبة من المثقفين والعلماء ، والمحبين للذات المحمدية ، وسيصعب على المتتبع حصر كل هذه التداعيات المتدفقة من الذات ، والمستلة من أعماق الفؤاد ، وتصدعات الدواخل ، وتأملات العقول المتحاورة ، ولذلك كله سأحاول اختصارها ، والإشارة إليها باقتضاب منبه للقارئ النبيه ، ومن يريد التفصيل والاستزادة فليرجع إلى مضامين الكتاب ، فكلها صادحة بالمراد المطلوب .

وردت معالم الاستجداد في قالب مسترسل مع الأحداث ، ومتنوع في المحتويات ، ففي كل باب وفصل تجد ما يلائمه ، وما يتولد عنه من إحساسات نفسية وفكرية ، وقد وضعت لها عناوين فرعية تسهل على القارئ عملية القراءة والتتبع ، وإجمالها هو الآتي : توسيع المعنى ، خاصية التنظيم في باب الأوصاف خاصة ، توظيف الأخبار لتجلية بعض الحقائق المتصلة بالكرامات ، استعمال أسلوب الحجاج العقلي في سياق الحديث عن قضايا المعجزات المثارة عبر تاريخ القراءة والمناقشة ، وسأقف بالقارئ مع نماذج فقط ، وسيكون الترتيب عكسيا من أسفل العناوين المتقدمة ، ولنبدأ مما انتهينا به على الشكل التالي :

3 – ا – الوقوف على معنى العجز ، وفيه أضرب متعددة مما ذكره الناظم ، مُفَصَّلا في مباحث كثيرة داخل الكتاب ولكن سأسرد هنا المعنى العام المقدم على ما سواه من الأوجه ، يقول الناظم :

أفرد هذا الفصل يا فنان
لما عليه ينطوي القرآن
قال أبو الفضل عياض المستنير
هذا الكتاب ينطبق على الكثير
من معجزات مصطفى القرآن
لم يستطع تقليده إنسان
آياته جلت عن التقليد
مسبوكة كاللؤلؤ المنضود
قد أدهشت أهل الحجى بما ورد
فيها من الإعجاز مالا يحد ” 11 ” .

3 – ب – الرد في باب الكرامة على من أبطلوا حجج وقوع كرامة الإسراء يقظة ، يقول :

لم يكن الإسراء حلما في منام
بل إنه أسرى به باري الأنام
به إلى أرقى المراقي صعدا
في المصحف الكريم ذا قد وردا
والحجج التي عليها اعتمدوا
في ردهم على الذين جحدوا
في المصحف المذكور منها وردا
يرد عمن بالصعود جحدا
أسرى به سبحانه وتعالى
هذا الذي أنزله إنزالا
في النوم لا يمكن أن يقالا
أسرى فكان قصده محالا
كما أتت رؤيا وليست رؤيه
معناهما ليسا على سويه
فليس في حلم تراه فتنه
وهل تكون فتنة في الوسنه
إذ كل ما في الصحو لا تراه
يمكن في المنام أن تحياه
فليست الفتنة في الأحلام
فمثل ذا نراه في المنام
فهي إذن رؤيا بعين ناظره
ولم تكن رؤيا منام عابره ” 12 ” .

3 – ج – خاصية التنظيم في باب الأوصاف تشمل كل ما يتصل بحياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد تتبعها الناظم بعناوين محكمة ، ومحددة المعنى ، وما لفت انتباهي هو قدرة إسماعيل زويرق ، وتمكنه من الكشف عنها في تفاصيلها الدقيقة الرقيقة ، فقد كتب في فصل بعنوان : ” حالته في الضروريات صلى الله عليه وسلم ” ما يلي :

وما إليه دعت الضرورة
ضروبها ثلاثة مشهورة
ما الفضل في قِلَّتِه يكون
في قلة الطعام لا شجون
ما الفضل في كثرته تجلى
لمن به من الورى تحلى
ما اختلفت في ضربه الأحوال
فاعلم بذلك أيها المفضال
أما بيان الأول المحمود
في قلة المأكل والمعهود
نبينا بما قضى الضروري
في عيشه في نومه اليسير ” 13 ” .

ثم يسترسل في ذكر عيوب النوم والأكل الكثيرين ، وما يدلان عليه من جهة الكسل والخمول وغيرها من الأمراض المصاحبة لمفهوم تجاوز مقدار الضرورات المقدورة ، وتعدي الحدود المرسومة للإنسان في كل مناحي حياته كما سطرها الله له ، وأرشده إليها في كثير من المقتضيات الشرعية ، وحثه على طلبه إياها لعله يفوز بفوائدها الدنيوية والأخروية ، وينال عبرها رضى ربه عنه ، فمفهوم الحياة المستنتج مما ورد في كتاب منظومة الاصطفا قد تأسس على ما كان عليه العهد في حق نبينا ، وهو العهد المعصوم ، والممثل للقيم المختلفة المطلوبة من أي إنسان .

هكذا رأينا الناظم قد استطاع أن يستوعب المعاني ، ويسوقها عبر رؤية ذاتية متجانسة ومتفاعلة ومتكاملة مع الهدف من الإنسان في وجوده ، ولعمري إن لم يكن ذلك هو الاستجداد المطلوب من كل قارئ وناظم لكتب السيرة على اختلافها ، وفي مقدمتها كتاب الشفا فأي استجداد آخر يمكن أن يكون ، وينتبه إليه ، ويطلب للتعبير عنه ، والإشادة به ؟ .

4 – الاستجداد في المنحى الذاتي المتعلق بالناظم :

كأنه فصل نهائي في الكتاب ، وهو كذلك ليس بالموقع والحيز ولكن بكبر أماكن التأثير والتأثر ، ووضوح الرؤى بين كل الأطراف المشتركة في المعنى ، والمحررة لمحتويات الكتاب ، فالناظم أخلد إلى نفسه في هذا الباب ، وأضحت الترسبات المستقرة في فؤاده عبارة عن شرارات عشقية ، ثائرة في الأعماق ، وتود الخروج للانضمام إلى رحابة المسار الفكري الذي أضحى متسعا وعريضا ، والميزة الأساسية هنا أن الكلام لم يعد مستفادا من الأخبار ، ولا من المواقف والآراء ، وإنما صار كلاما خاصا بالناظم ، وذا طابع فريد ومتفرد ، وقد اختار أماكن الجلوس والتأمل الدالة على الحب والتعلق ، والتعظيم ، والصلاة ، وتحقيق الحقائق ، ودفع الشبهات ، واللجوء إلى التصريح بالأحكام الشرعية الحامية للحياض ، والمدافعة عن المناقب ، والمُحَصِّنَة لمقامات النبوة ، يقول الناظم في باب التعلق والمحبة المتجهة للذات المحمدية ، ولاسيما ما يتعلق منها بالأفعال الملموسة كالإيمان به وطاعته :

قد وجب الإيمان بالرسول
وبالذي قضى بلا تمهيل
هذا الذي أوجبه القرآن
آياته بما أتت به برهان
فطاعة الله بطاعة الأمين
مقرونة وبالثواب ستزين
وُعِد من أطاع بالثواب
وأوعد العاصي بالعقاب
إن امتثال أمره لا يجتنب
وما نهى عنه فليس يقترب
وطاعة الرسول في الإتيان
بكل ما قضى وبالإتقان
فمن أطاع المصطفى فيما صدر
عنه أطاع ربه فيما أمر
طاعته في كل ما قد أمره
وفي الذي حرمه وحظره….” 14 ” .

ثم تطور الموقف إلى أن صار عبارة عن صور عديدة للتعظيم حصلت في نفسية الناظم ، وأدركها بوعيه الوليد من لحظات اللقاء ، الجامع بين أجيال المحبين ، فكل واحد منهم يتسابق ليكون في مقدمة الركب ، والتسابق في المضمار المذكور محمود ومطلوب ، ويؤجر عليه ، يقول الناظم في خصلة التعظيم :

وهذه من جملة الآداب
عنها يحض ثالث الأبواب
تعظيم أمر المصطفى وشأنه
فرض على من آمنوا بدينه
وبره وبر أهل بيته
وبر من عرفت من عترته
قد أتت الآيات في تعزيزه
كما أتى الكثير في توقيره
في نصره إكرامه تعزيره
إجلاله تعزيزه تقديره
على الأنام يجب الإصغاء
إذا تكلم فلا ضوضاء
هذا الذي ورد في الكتاب
وحث من يعي من الأصحاب….” 15 ” .

ومن دلالات المحبة والتعلق والتعظيم الانتباه إلى مقام الصلاة والتسليم على نبينا محمد عليه السلام ، فهو يحتاج إلى استقصاء متحرك ، ومبد للوشائج الذاتية ، ومظهر لتلك الأنوار القدسية الداخلية ، فبركة الصلاة والتسليم على نبينا ليس لها حدود ، وليس لها لسان واحد ، وإنما لكل لسان طريقته وفوائده في التعبير والحصيلة ، ولسياق المحبة والتعظيم والصلاة والتسليم مزايا أخرى ، كثيرة وعديدة ، وما شد انتباهي منها هو ما يستمتع به القارئ من حلاوة داخلية مقتسبة من نفسية الناظم ، وما يتملى به من انسياب وتدفق وسهولة على مستوى اللغة والأسلوب ، وكأن عملية التداخل والانصهار وقعت بعمق ، وازداد إشعاعها صفاء وتوهجا ، يقول الناظم :

معنى الصلاة عند أهل اللغةِ
يكمن في الدعاء والعبادةِ
وأصلها في اللغة الترحم
من ربه ومن سواه مغنم
صلى عليه الله والملائكة
دعوا له بأن تفيض البركه
في الملأ الأعلى عليه الله
صلى وما صلى على سواه
وأمر الناس بفعل ما فعل
بفعل ما قد فعل الخيرُ حصل
أمر أن يسلموا عليه
إن ذكر اسمه بغير تيه
من ربه الصلاة رحمة ومن
أملاكه الدعاء بالخير زكن
وما السلام غير ما يوحي به
معناه في بيانه وشرحه
من المعاني ذكروا أقساما
ثلاثة حددها مراما
منها السلام خالق البرية
كذا السلام من الأذية
كذا المسالمة للذي أمر
لا رَدَّ إن حكم فيما قد شجر…..” 16 ” .

وإذا فاضت الذات امتدت أضواؤها على الوجود ، وهذا ما حصل للناظم أثناء عملية النظم ، وهو بعد نفسي منبعث ومتدفق مع توالي التتبع والجمع والاستقراء ، وهو بعد عقلي ، وحين يتطور الموقف ما بين كل موقف وآخر ، وما بين كل باب وفصل ومبحث وصفحة داخل الكتاب ، وقد اطلعنا على ما سبق ، وها نحن نصير إلى سياق الحقائق الكامنة في سيرة نبينا ، فهو وليد لما سبق ، ومُؤَسِّسٌ لما سيأتي كالعادة الجارية على طول الكتاب ، يرد به كل شبهة ضيقة وغالبة ، ومكونة لبؤر التصلب السلبية داخل النفوس ، الفاقدة لرغبة الانطلاق والتحرر من عبء الحياة العامة ، والتخلص من الأصفاد المكبلة لحركاتها ، والمتطلعة لمقام الأنوار ، للأسف مثل تلك النفوس تشبه من طبع الله على قلبه ، وجعل في أذنيه وقرا يمنعه من السماع الجيد ، وتتساوى لديه كل الأصوات في البعد والضعف ولو كانت جميلة ، فصممه يفصل بينه وبين كل إحساس بالجمال حتى ولو كان قريبا منه ، يقول الناظم :

قال أبو الفضل ممهدا
يجب أن تعرفه وتفهما
إن الطوارئ تصيب الخلقا
من كل ما خلق ربي حقا
تبدو على الجسم بغير قصد
ولا اختيار عند أي فرد
كالداء والأسقام إن كنت تعي
وباختيار أو بقصد مزمع
عند المشايخ أتى تفصيلها
إلى ثلاثة وذا بيانها
عقد بقلب واعتراف باللسان
وما أتى من الجوارح وكان
وكل من فوق الثرى من الأنام
بالاختيار أو بغيره يسام
يسام بالآفات والمثالب
وكل شيء قد يكون سالب
والمصطفى منزه عن الشنيع
مما يصيب غيره من الجميع…..” 17 ” .

من لم تنفعه كل وسائل التبيان والتفهيم ، والترغيب يحتاج إلى استبدال وسائل الخطاب والمواجهة ليحصل الوعي المراد ، فمثل أولئك يصبحون في حكم الكائن المعوق ، ويتحولون إلى وبال على مجتمع الإنسان بصفة عامة ، فلا يصدر عنهم إلا السوء ، ونفعهم لا يكاد يرى ، ولمثلهم شرعت الأحكام الرادعة ، وهذا ما استطاع أن يصل إليه الناظم في باب الحكم الشرعي المبسوط ، والحامي لمقام النبوة من النقص ، والانتقاص ، والسب ، والتزوير ، فعندما يصبح الأمر حقيقة ، ويتجلى لكل الناس بجميع أدوات الفهم ، ووسائل الإدراك المبثوثة في الجسد ، وفي النفس ، والسماء والأرض ، والبحر والبر والزمان والمكان والحيوان والنبات والجماد….. والذي لا يفهم بكل تلك الطرق الملقاة أمامه ، وإن كانت بسيطة وسهلة ، ولا تكلفه عناء وجهدا ، وتتماشى مع مقدوره العقلي فإنه يصبح جانحا وعنصرا مستفزا وخارجا عن مضمار الفطرة المستقرة ، ولهذا يجب أن ينبه بواسطة الأحكام المانعة من الطيش والاختناق ، يقول الناظم عن الوجه الخامس من الأحكام المقررة في حق من وصف نفسه بصفة من الأنبياء عليهم السلام :

وخامس الوجوه قد تعلقا
بمن بوصف المصطفى تأنقا
أخذ من أوصافه البعض له
لم يقصد النقص ولم يغن له
في قوله لم يقصد النقص ولا
قصد عيبا بل تجلى مثلا
قصد من هذا التشبه به
إعلاء قدره سمو كعبه
أتى بما ليس من التوتر
وقوله يشير للتنذر
من أنبياء الله من قد كذبا
ومن كمثل أي شخص أذنبا
إن كنت أذنبت فغيري أذنبا
ممن من الله تلقى حسبا
جاء بمثل ذا قريضا لشعرا
ووصفوا به جميع الأمرا
وفي الدواوين من الشواهد
في وصفهم ما لا يحد عامد
قد سرح ابن هانئ تسريحا
لسانه بما أتى تصريحا
فلم يقل بمثل ذا يعزر
شخص ولا الأعلام منه أنكروا
أمثلة قد وردت كثيرة
والشعر لم يقصد بها تعييره
لقد أجازوا ذا لمن لم يقصدوا
تعييره بما هم قد أنشدوا
فما تضمن به النقص ولا
رام به من صاغه أن يمثلا……” 18 ” .

كان هدفنا من وراء هذا المقال ومنذ البداية تحقيق مجموعة من الأهداف ، بعضها زمني بمفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل ، وبعضها معرفي ، ويتمثل في ربط حلقات الجهد الفكري المبذول ، والمتواصل مع الأجيال المتتالية من العلماء والنظام ، وثالثها إبداء شيء من الإنصاف لكتاب منظومة الاصطفا ، فهو يصدر عن نحت ذاتي متلألئ ، ومحاورة نفسية عميقة ، وتجربة عقلية وفكرية واسعة ، مر بها الناظم ، وشكلت جزءا من وجوده ووعيه الذي يحيا على منواله ، ومثل الكتاب المذكور لا يمكن أن يؤلف إلا في ظرف خاص بخصوصياته المتعددة كما رأينا فيما سلف ، فالمعرفة المشاعة وحدها لا تكفي لإنجاز مثله ، والمواقف النفسية البعيدة والعامة لا تستطيع الاستناد على أبوابه ، وأكيد أن الدواخل الملوثة ستحرم لا محالة من الوجود في محاربه ، فالكتاب عبارة عن رحلة تأملية طويلة جمعت ما مرت به من الحياة ، واقتبسته من الوجود ، وتناغمت معه عبر عمرها ، ووصلت به إلى بر الأمان ، وكأنه وليد حياة وحيدة ومتفردة في كل شيء ، لا تتكرر إلا في أوقات نادرة ، أوقات الصفو والإيمان ، والأنوار القدسية المشعة على الكون ، ومثل هذا الفعل لن يستطعه إلا النجباء الأنقياء الأتقياء ، أهل الصفاء والاصطفاء كالناظم إسماعيل ازويرق…. اللهم أشركنا معه في الأجر والثواب .

الهوامش :

1 – المنظومات العقدية بالمغرب من القرن الحادي عشر للهجرة إلى القرن الثالث عشر ، تحقيق وتقديم نماذج ، من إعداد ذ ياسين أزكاغ : 21 ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المملكة المغربية ، الطبعة الأولى 1442هج\2022م .
2 – نفسه : 22 .
3 – نفسه : 24 .
4 – نفسه : 25 .
5 – نفسه : 27 .
6 – منظومة الاصطفا في مختصر كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض للكاتب إسماعيل زويرق : 4 الطبعة الأولى 2024 .
7 – نفسه : 8 .
8 – نفسه : 16.
9 – نفسه : 21 .
10 – نفسه : 31 .
11 – نفسه : 173 .
12 – نفسه : 139 \ 140 .
13 – نفسه : 72 .
14 – نفسه : 228 \ 229 .
15 – نفسه : 242 \ 243 .
16 – نفسه : 255 .
17 – نفسه : 274 .
18 – نفسه : 333 \ 334 .

arArabic