للمراكشية: ذ محمد الطوگي //
عنوان” كتاب الجامعـــة اليوسفية بمــــراكش في تسعمائة سنة”، حسب علــــم العنونة titralogie– يشي بمحاججة ضمنية مع خصم متردد أو منكر لفضل جامعة ابن يوسف.
إن كتاب ابن عثمان هذا يعتبر من بين مؤلفات عصر النهضة في المغرب الحديث وهو مشروع موسوعة خاص بتلك الجامعة أنجز منها رحمه الله الجزء الأول، تطرق فيه إلى مرحلة تأسيس تلك المعلمة في عهد المرابطين، ولو أنسأ الله في عمره لتناسلت الأجزاء مغطية عصور الموحدين والمرينيين والسعديين والعلويين، ولكن قدر الله وقضى.
وعلى كل حال فقد أرخ لتلك الذاكرة الزاخرة، التي كانت ولا تزال المفتاح الطوبوغرافي لمدينة مراكش الأصيلة. والتاريخ في حد ذاته شهادة وكتابة وتسجيل وتملك وبينة، قد يغيب الأثر أو يمكر به ويبقى التاريخ شاهدا على المؤسسة ودالا على وظائفها وفضائلها.
لقد أحيى ابن عثمان جامعة ابن يوسـف إبان رئاسته في أواخــر ثلاثينيات القرن الماضي لغايــة منتصــف الأربعيــنات، ودافع عن وجودها واستمراريتها وحــرص على فعاليتها ومردوديتها، وباع من أجل ألقها وتألقها التليد والطريف من ممتلكاته، وترك أمر تسييرها ورعايتها لمن يأتي بعده، بعد أن مهد السبيل، ورفع المعالم، واستنبت التقاليد، وأسكت كل معارض ومنــاوئ ففرض توجودها، واستقر بها النظــام وحفلت بالطلبة وجهابذة الأساتذة، ودمغت باسمها الشواهد لمختلف المستويات، الابتدائي والثانوي والعالـــي. وأتيح لخريجيها ولوج مختلف أسلاك الوظيفة العمومية، وأن يرتقوا إلى أعلى درجات السلالم الإدارية، بل منهم من تقلد مناصــب وزارية وتسلم رئاسة الحكومة. ومنـــهم من أغناه الله عن الوظيف، واشتغل في قطاعات أخرى، فأنشأ مقاولات ناجحة ساهمت في التشغيل والعمالة، وعادت بالنفع العميم على الاقتصاد الوطني. كما كان لجامعة ابن يوسف دور هام وطنيا وثقافيا وسياسيا.
ترى هل حافظ من جاء بعد ابن عثمان على ما ناضل الرجل من أجله؟
وهل ظلوا مستأمنين على مجدها العلمي والوطني، أم ألهتهم أنانيتهم وأملهم المادي عن تلك القيم؟ فنسوا أو تناسوا المعهد الذي نشأهم صبية وكونهم شبابا وأعدهم لهذا التفوق والامتياز؟
نعم لقد أريد لها أن تباد تدريجيا فاجتث منها في أواخر الخمسينات تعليمها العالي وتراخي الزمان وتعاقب الليل والنهار أتــي على ما تبقى، وهاهي ذى قد أضحــت أثرا بعد عين، وحملت جريـرة ضياعــها لمن وئـــدت على يديه، وســـط صمت أساتذتها وخريجيها، وساكنة هذه الحضرة المراكشــية المريّفة ( بتشديد الياء ) التي أصبــحت بتولي جامعتها اليوسفية فاقدة لشريحة مهمة من ذاكرتها. وكأني بها تجأر في وجوههم:
– وإن الذين ضيعوني لضيع –
نعم قيض الله لها منذ ما يزيد على العشر سنوات جمعية مدنية حملت اسمها، برئاسة العلامة اليوسفي المناضل سيدي إبراهيم الهلالــي، وجعلت من أهدافــها إحياءها، فأصـــدرت مجلة مهمــة حاملة لاسم جامعة ابــن يوسف، وعقـــدت ندوات وطنيـــة، وحملت هم إحيائها إلى الجهات العليا المسؤولة آملة أن تظفــر بمؤسسة تعليمية حاملة على الأقل لاسمهــا جامعة بين الأصيل والمعاصر، وتكون أجيالا في مستوى تحديات العصر.
وعلى أي فلنعد عن ذا، ولنتحدث عن طه حسين وعمل ابن عثمـــان حول الجامعة اليوسفية. فأقول لو أتيح لابن عثمان أن يطلع طه حسين على عمله الذي أصدره في سنة 1937، أولو قدر له أن يقدمه كأطروحة دكتوراه في الجامعة المصرية بإشرافه – وستكون أقدم دكتوراه في موضوعها- لاحتفى به طه حسيــن ولا هتز له طربا ولأغدق عليه من نبل عواطفه وحســن بيانه وطرافة أفكاره. وماذكرته ليس ببعيد عن همة محمــد بن عثمان، فقد درس في جامعة ابن يوسـف وجلس إلى رمـــوز العلـــم في الربــاط ثم أتـــم دراسته على حسابه في المشرق في مصر، وعــرف هناك بذكائه وألمعيته، واستمــع إلى رهــين المحبسين محاضــرا وقــرأه كاتبا، وتتبع نقده وخصامه على صفحات الجرائد والدوريات. قلت لو وقــع ونزل وعرض عليه أطروحــته لم يجد طــه حسين في ذلك أيغضاضة ولكتب ما كتبه عن عمل أتيح لي الاطلاع عليه أشرف عليه حول الأزهر1. وإنني لأجد بينه وبين عمل ابن عثمان تواشج وتماه في المضمون، كل ما هناك أن ذاك يدور حول مجد الأزهــر، وموسوعة ابن عثمان
1 محمد كامل القفي: الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة.
حول ابن يوسف. يقول طه حسين في تقديمه للعمل حول الأزهر،- و أنا التمس من القارئ الكريم أن كلما مـــر على الأزهـــر في هذا التقديـــم أن يستبد له بابن يوسف، وأن يضع مكان رمــوز الأزهـــر رموز ابن يوسف كابن رشد وابن تومـــرت، وابن طفيل والحسين اليوسي…الخ-.
يقول طه حسين: ” هذا كتاب قدر صاحبه أنه سيحي به مجد الأزهر ويرد به إلى هذا المعهد الكريم علينا بعض حقه ويعيد إليه شيئا من مكانته التي يظن كثير من الأزهريين أنه زحزح عنها في هذاالعصــر الحديث. وهــذا التفكيـــر نفسه خير لأنه البر والوفاء ولأنه الإنصاف ورفع الحيف، ولكــن صاحـــب الكتاب لم يكد يتم عمله ويفرغ من كتابـــه حتــى تبين للذين يقرأون هذا الكتاب أنهتجاوز ما فكر فيه المؤلف إلى شيء هو أعظم منه خطرا وأكثر منه شمولا وأجدر منه بالرضــى وأحــق منه بالثنــاء. فمن الخير كل الخير أن يحب الطلاب معاهدهم ويبروها ويفوا لها ويذودوا عنهاما يصيبها أو ما تتعرض له من المكروه.
ولكن تحقيق التاريخ في نفسه من حيث هو تاريخ، وإظهار الحق في نفسه من حيث هو حق أعظم من ذلك نفعا وأشمل منه فائدة وأجدر أن يقدره الباحثون حق قدره ويمنحوه خير ما يملكون من العنـــاية والإعجاب. ذلك أن الحق الخالص هو مطلــب الذين يفرغـــون للعلم ويعكفون على البحث ويبتغون المعرفة الخالصة التي ترتفع عن الهوى ولا تتأثر بالعاطفة ولا يلونها الشعور بما للمؤلف من الميول والنزعات.
والحق الخالص خليق أن يخرج الناس من الظلمة إلى النور، ومن الضلالة إلى الهـدى، ومن الغفلة إلى التنبيه، وأن يبصرهم بما مضى من أمرهم ويرفع لهم الأعـــلام فيما يستأنفون مـن حاضرهم ومستقبلهم. فهو غذاء لعقولهم وشفاء لنفوسهم وراحة لقلوبهم ونور يهتدون به فيما يأتون ويدعون. وقد استقـــر في نفوس الأجيـــال المعاصـــرة منذ أواخر القرن الماضي أن الأزهـــر الشريفقلعـــة المحافظة وموئل الرجعيـــة ومستقر الجمود وأنه يحيا بمعزل عن الحضارة الحديثة التي تغمر مصر وتدفعــها إلى أمام. وان هذه الحضارة إنما تتلقاها معاهد التعليم المدنــي فتنشئ عليها الصبية وتغـــدوا بها الشباب وتكون بها الرجال الذين ينهضون بأعباء الحياة العامة. وإذا كان للأزهر عمل في هذه الأيام فإنما هو عمل المعارض في كل تقدم الممانع في كل تجديد الحائل دون كلرقـي. وقد يذكر لهذه الأجيـــال بعض الأشخاص الذين امتازوا في هذا العصــر وأثروا في الحياة الحديثة تأثيرا بعيـــدا وتخرجوا في الأزهر ولكن الناس يسمعون أسماء هؤلاء الأشخاصفيمنحونهم الرضى والحب والإعجاب دون أن يفكروا في المعهد الذي نشأهم صبية وكونهم شبابا وأعدهم لهذا التفوق والامتياز.
فمحمد عبده وسعد زغلول عظيمــان من عظماء العصر الحديث ولكـــن الأزهر عرض من أعراض حياتهما قد مر بهما أو مرا به دون أن يؤثر فيهما أو يؤثرا فيه أثرا ذا خطر. وكذلك تنشأ الأجيالعلى الخطأ والجهل والعقوق، ويستقر في نفوس الناس أن الأزهر شيء قديم له قيمة التراث فينبغي أن يحتفظ بهذه القيمة وألا يطمع في أكثر منها وينبغي قبل كل شيء ألا يقوم عقبة في سبيلالرقي والتقدم والإصلاح.
وهذا الكتاب الذي أقدمه مغتبطا بتقديمه إلى القراء مصلح لهذا الخطأ مزيل لهذا الجهل منق للنفوس من هــذا العقوق، لأنه يظهر في أوضح الوضوح وأجلى الجـــلاء أن الأزهر لم يكن مشرق النور في العصور القديمة وحدها،وإنما هو مشرق النور في العصر الحديث.
وفي الختام ماذا يضير المغرب لو اعتز واحتفى، في إطار ملتقيات أقدم الجامعات العالمية، بجامعتين أصليتين إحداهما في فاس، جامعة القرويين، والثانيــــة في مراكش جامعـــة ابن يوسف.